عودة إلى التصنيفات السائدة لدى تناول الفنّ السوري في العقدين الأخيرين. أين ينتهي «الحديث» ويبدأ «المعاصر»؟ أسئلة تنطلق من معرضين تتهيأ دمشق لاستقبالهما
باسل السعدي
ما هو الحديث وما هو المعاصر؟ هذا التضارب في المفاهيم واجهه القيمون على معرضين تستقبلهما دمشق قريباً ضمن مشروع «الذاكرة التشكيلية»: الأول «معرض الفن السوري الحديث من 1990 حتى 2000» والثاني «معرض الفن السوري المعاصر» الذي يغطي بعد 2000. في العالم، ارتبط «الحديث» بما تجاوز التقليدي صانعاً نقلة في المفاهيم الفنّية الأساسية من جهة الموضوع، والبحث اللوني والشكلي. هذا التعريف ارتبط بإنجازات رواد الفن في مطلع القرن العشرين. أما الفنّ المعاصر فمصطلح ارتبط عالمياً بالسبعينيات وما بعدها، ويُستخدم اليوم للحديث عما ينتجه الفنانون الجدد، في تناولهم مواضيع جديدة، وخصوصاً استخدام أدوات تعبير وقوالب مستحدثة كالفيديو والتجهيز. ربما كان كافياً للقيّمين على المعرضين التقسيم الزمني لتحديد ما هو حديث وما هو معاصر. مع ذلك، لنحاول قراءة الأمور من زاوية أخرى، ورؤية ما أُنجز خلال العقدين الأخيرين على الساحة الفنية في سوريا.
بين 1990 و1995، شهدت سوريا طفرة كرّست أسماء شباب قدّموا ما بدا نقلةً خارج الأسئلة الديماغوجية المملّة التي كانت تطرح في السبعينيات والثمانينيات، مثل «العلاقة بين الأصالة والمعاصرة»... بين هؤلاء، النحاتون مصطفى علي وأكثم عبد الحميد وجميل قاشا، والرسامون صفوان داحول وأحمد معلا وحمود شنتوت. وقد جمعهم وضوح الشكل الإنساني ورومانسية الموضوع، وغياب العنصر الحسي على السطح (باستثناء أحمد معلا)، وتمكّن تقني أكبر من الجيل القديم. ستتكرّس تلك الأسماء وسنجد الفنانين الشباب يستنسخون تجاربها. في سياق آخر، كان فنّانون من جيل التسعينيات يعملون خارج أي توجّه عام، مثل عبد الله مراد الذي انصبّ همّه على البحث اللوني المستند إلى التجريد المطلق. بالتوازي معه، كان ادوار شهدا يبني لوحته بهدوء عائداً إلى الأسئلة الفنية عند رواد الفن في القرن العشرين (سيزان، بيكاسو...) من ناحية هندسة الشكل (طبيعة صامتة، طبيعة...)، مع بحث لوني نادراً ما تجده في اللوحة في سوريا. أما يوسف عبدلكي فطوّر لوحته من النقد السياسي المباشر المتوازي مع بحث غرافيكي متقدّم على مستوى تقنيات الحفر والطباعة، وراح منذ منتصف التسعينيات يرسم أشياء مهملة (أحذية، بقايا طعام...) بواقعية شديدة.
في نهايات القرن، ظهرت أسماء أخرى بدت مُغامِرة، كسارة شما وخالد تكريتي وسبهان آدم، وكان الاختلاف كبيراً بينهم على مستوى الموضوع. سارة رسمت لوحاتها بنرجسية أنثوية وحسية عالية. أما تكريتي فقدّم مواضيع عادية كالزفاف، أو رسم أشخاصاً يقفون بطريقة تشبه الصور العائلية. وأخيراً رسم سبهان آدم كائنات متوحشّة في أماكنها المعزولة بقسوة وانفعال (راجع في مكان آخر من الصفحة مقالة نوال العلي عن معرضه البيروتي الجديد). وبقي الوضوح الشكلي أساسياً، ولن نلمح أي بداية لتجريد ما. وعلى مستوى اللون، ظلّت الألوان الداكنة حاضرة.
بين 1999 و2003، أقام الفنان السوري المغترب مروان قصاب باشي ورشة عمل شبه سنوية في عمان، شارك فيها سوريون شباب شكّلوا لاحقاً توجهاً فنياً جديداً في اللوحة السورية التي مالت إلى التعبيرية التجريدية. وما جمع تجاربهم هو الانفعال على سطح اللوحة، وعدم وضوح الشكل، والتركيز على مواضيع هامشية. انتشر هذا التوجه الجديد بين طلاب كلية الفنون فبرز وليد المصري، وتمام عزام، وقيس سليمان، وعمران يونس، ومحمد علي، وإيمان حاصباني، وأكرم الحلبي. وفي السنوات الأخيرة، أخذ مبدعون شباب يبحثون عن أساليب أخرى لصناعة العمل الفني، مثل نسرين بخاري التي صقلت تجربتها في التجهيز المطورة عن أشكال نحتية إنسانية...
هل تتجاور البدائية الفنية مع المعاصرة والحداثة؟ ما هو حصاد التاريخ الفني القريب في سوريا؟ هل أجاب فعلاً عن أسئلة الحداثة الفنية؟ وهل وجد حقاً «فن سوري» له خصائصه؟ الإجابة تتطلّب مراجعة نقدية حقيقية قد لا ترضينا، لكنها ستكون مفيدة إذا نظرنا إلى أنفسنا بعيون مفتوحة. مرةً، قال مروان قصاب باشي: «الفن الجيد هو الفن الذي ينظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل».