ثلاثون عاماً على رحيل دونكيشوت الأغنية الفرنسيّةبيار أبي صعب
الفنانون الكبار يغلبون الزمن، وجاك بريل قطعاً واحد من هؤلاء. لكن الأغنية الفرنسيّة قد لا تكون عرفت، قبل «جاك الكبير»، هذا المستوى من التمرّد على الموت. ذلك البلجيكي العصبي والخجول والنحيل، صاحب الصوت الذي يجمع بين القسوة والحنان، بين السخرية والغضب... ثلاثون سنة بعد رحيله ما زالت أعماله تحتل مكانة مرموقة في قائمة المبيعات: ٢٠٠ ألف أسطوانة لبريل تباع كلّ عام في فرنسا وحدها. كثير من المغنّين الأحياء، الحاضرين في الأضواء، لا يحلمون ببلوغ نصف هذا الرقم!
كل جيل جديد يعيد اكتشاف جاك بريل، ويردّد أغنياته بشغف كأنّها صدرت بالأمس القريب، ويبحث من خلالها عن ملامح الأزمنة الراهنة. ربّما جاز هنا أن نستعير عنوان المسرحيّة الاستعراضيّة الأميركيّة التي قدّمها مورت شومان عام ١٩٦٨ في برودواي: «جاك بريل على قيد الحياة، وفي أحسن أحواله، ويعيش في باريس»! علينا فقط أن نعدّل الشطر الأخير ليصبح: «... ويرقد في الماركيز»، على اسم إحدى الجزر البولينيزيّة الفرنسيّة جنوب المحيط الهادئ، حيث أمضى أيّامه الأخيرة بعيداً عن العالم، مع عشيقته مادلي بامي. وقد خلّدها بأغنية وأسطوانة، قبل أن يدفن ــــ بناءً على وصيّته ــــ في ثراها ولمّا يبلغ الخمسين... «دعني أقول لك/ لا مكان للأنين/ في الماركيزجاك بريل (١٩٢٩ــــ ١٩٧٨) أكثر من مغنٍّ... إنّه شاعر ومؤلّف ورجل استعراض. حالة فنيّة وثقافيّة وعاطفيّة! وكل ذلك يفسّر حضوره اليوم بهذه القوّة في الوجدان الجماعي. إنّه الرجل القبيح الذي يملك قدراً خارقاً من الجاذبيّة، والفلمنكي الذي اختار اللغة الفرنسيّة، والعاشق الذي أسرف في الشراب والدخان والنساء... والمغنّي الذي كان يحترق في حفلاته الحيّة، يصرف طاقة خارقة على الخشبة، ويسحر بحركاته المضخّمة وحبيبات العرق النازفة من مسامه.
ذلك النجم اعتزل الغناء في ذروة تألقه (١٩٦٦ ــــ ١٩٦٧)، كي ينصرف لتحقيق أحلامه الخاصة، ثم عاد إلى الخشبة ممثلاً، وقف أمام الكاميرا ووراءها... كثيرون يجهلون ربّما أن بريل ممثّل ومخرج سينمائي أيضاً. وهو هاوي السفن الشراعيّة والطائرات، كان يذهب في رحلات بحريّة تستغرق أسابيع طويلة، وتعلّم الطيران، وآخر طائراته صارت تاكسي وإسعافاً وبريداً، في خدمة جيران سنواته الأخيرة، أهل جزيرة Hiva - Oa المعزولة في الماركيز، وتبعد ساعات عن مطار بابيتي (تاهيتي)...
إنّه المسافر الدائم إلى الأقاصي، «دونكيخوته دي لا مانشا» بطل المسرحيّة الغنائيّة الضخمة التي أرهقته عروضها المئة والخمسون (٦٨ ــــ ٦٩). بركان الأغنية الفرنسيّة. تلك المدرسة الفريدة التي يتماهى عندها المؤدّي والمؤلّف، صار أحد كبارها، إلى جانب غينسبور وبربارا وموستاكي وريجياني، وجان فيرا وجولييت غريكو... لنقل إنّه وقف في مكان ما بين جورج براسنز وليو فيري ليكوّنوا معاً «الثلاثي الفوضوي» الذي اجتمع شمله مرّة واحدة: في ٦ ك٢/ يناير ١٩٩٦، من أجل حوار صحافي نظّمته مجلّة «روك اند فولك» مع إذاعة RTL. وقد خلّدت اللقاء صورة شهيرة بالأبيض والأسود تحمل توقيع جان ــــ بيار لولوار.
هذا هو، باختصار، البلجيكي الذي يمّم ذات يوم شطر باريس، باحثاً عن مكان له بين أدغال كاباريهاتها ونواديها وحاناتها ومسارحها. هرب من معمل الكرتون والتغليف العائلي الذي كان منذوراً له. ترك خلفه ذكريات التربية القاسية في المدارس الكاثوليكيّة. بعدها بسنوات طويلة، سيقول في ذروة التكريس إن الإنسان لا يفعل طوال حياته سوى تعويض طفولته الضائعة. في كل الأحوال لم يكن جاك يحبّ المدرسة (باستثناء الأدب الفرنسي)، ولا العمل في المكاتب، كان يريد أن يشقّ طريقه في عالم الغناء. بعد أسطوانة أولى ٧٨ لفّة (١٩٥٣) في بروكسيل، هجر «البلد المسطّح» (عنوان أغنية شهيرة له) حيث «الكاتدرائيّات هي الجبال الوحيدة»... استجاب لدعوة جاك كانيتي مكتشف المواهب الشابة الذي يعمل لدى شركة «فيليبس»، ويملك كاباريه Les Trois Baudets الشهير حينذاك في باريس، فكان أن قاصصته العائلة وقطعت عنه كل إعانة.
تلك السنوات لم تكن سهلة. في البداية لم يقبل به أحد. فنانون معروفون، مثل إيف مونتان، رفضوا أغنياته... ولم يتحمّس له الجمهور الذي كان يضحك من إطلالته «الريفيّة». ومرّة كتب أحد النقاد المرموقين: «هذا الشاب يكتب أغنيات جميلة، ليته فقط يمتنع عن أدائها». راح يعطي دروساً على الغيتار، ونام في الغرف الباردة على السطوح، بعيداً عن «ميش» زوجته التي لن تلحق به مع أولادها إلا عام ١٩٥٥. لكن برونو كوكاتريكس صاحب «الأُولمبيا» الأسطوري سيلاحظه، وجولييت غريكو ستأخذ إحدى أغنياته «إبليس (كل شيء على ما يرام)». وسيلتقي فرانسوا روبير وجيرار جوانيه اللذين سيشاركان في صنع تجربته، تأليفاً وتوزيعاً وعزفاً... وبعدهما جورج باسكيه الذي سيصبح مديره الفنّي وصديقه الغالي. إنّه Jojo الذي خاطبه بعد رحيله: «ستة أقدام تحت الأرض/ جوجو/ ما زلت أخي».
منذ منتصف الخمسينيات تتالت الأسطوانات، وبدأ النجاح يطلّ برأسه: «حين لا نملك إلا الحبّ»، «الفالس السريع». في عام ١٩٥٩ حفلة «بوبينو»، حيث حلّ مكان فرانسيس لومارك. في أكتوبر ١٩٦١، تكرّر السيناريو: لم تتمكّن مارلين ديتريش من الغناء في «الأولمبيا»، فناب عنها جاك بريل، وكان أن اهتزّ عرش الأغنية الفرنسيّة. لعلّه قدّم يومذاك أقوى حفلات مسيرته القصيرة نسبياً. بين ليلة وضحاها، صار جاك بريل الأسطورة التي نعرف. أغنيات بسيطة وقويّة، تحكي عن الحب والعشّاق القدامى والزمن الهارب، تنظر برقّة إلى العجائز، تحيّي الزعيم الاشتراكي القتيل جان جوريز، تسخر من البورجوازيّة والتعصب والشوفينيّة، من المناهج التربويّة التي تقولب الأفراد. تسخر أيضاً من الذات ومن العالم، بكثير من الصدق والعفويّة والجديّة. كان يلهب الصالات بأدائه الخاص، بطريقته في التعبير الجسدي والانفعال واللفظ والإيماءات، وتوظيف الصوت في خدمة الموقف.
في الستينيات، انتقل من شركة «فيليبيس» إلى «باركلاي». أخذه شارلي مارواني، مدير أعماله، إلى جولات عالميّة. غنّى في الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، وصولاً إلى قدس الأقداس: «كارنيغي هول» في نيويورك. تُرجمت أغنياته وقدّمت بالإنكليزيّة: تيري دجاك ودايفيد بووي ونينا سيمون وسيلين ديون وستينغ... صار جاك بريل من حيث لا يدري ظاهرة كونيّة. لكنّ المجد لم يُسكره يوماً. في خريف عام ١٩٦٦، وتحديداً في مثل هذه الأيام، غنّى ٣ أسابيع في «الأولمبيا». وفي اليوم الأخير، أول نوفمبر، ودّع الجمهور... وقال إنّه سيعتزل الغناء.
السنوات التالية سيصرفها في السفر، والحبّ، والسينما. مثّل مع أندريه كايات («مخاطر المهنة» ــــ ١٩٦٨)، ومارسيل كارنيه («القتلة» ــــ ١٩٧١)، وكلود لولوش («المغامرة هي المغامرة» ــــ ١٩٧٢)... وأخرج «فرانز» (١٩٧٢) ثم «الغرب البعيد» (١٩٧٣) اللذين لم يحققا نجاحاً يذكر.
كان المرض الخبيث قد تفشّى في رئتيه، قبل أن ينتشر في جسده، حين قرر الانتقال للعيش في جزيرته عام ١٩٧٥، برفقة مادي الممثلة والراقصة التي تعرّف إليها أيام تصوير فيلم لولوش. تلك المرحلة الأخيرة كرّس لها أسطوانته ــــ الوصيّة Les Marquises (١٩٧٧). سجّلها في باريس بعد انقطاع عشر سنوات، وباعت «قبل صدورها» مليون نسخة. يوم الإطلاق كان بريل في الطائرة عائداً إلى جزيرته، حيث دفن ــــ بعد أقلّ من عام ــــ في مقبرة «أتونا»، في جوار الرسّام بول غوغان... كان ذلك في مثل هذا اليوم، قبل ثلاثين عاماً.

العشيقة والمزاد وغضب الورثةلكن المزاد أثار غضب ورثة بريل، زوجته وبناته الثلاث، والمؤسسة المعنية بحفظ تراثه وترويج أعماله. ذلك أن مالك الـ ٩٥ قطعة المعروضة للبيع (بقيمة نصف مليون يورو تقريباً)، من ملصقات حفلات وأسطوانات وآلات غيتار ومخطوطات وأغنيات ودفاتر وأثاث... ليس له أي حقّ معنوي يخوّله التصرّف بحقوق المغنّي الراحل. وفي الحقيقة، فإن المجموعة الخاصة المطروحة للبيع آتية من بيت شغله بريل مع عشيقته سيلفي رييه، بين ١٩٦٠ و١٩٧٠، في قرية روكبرون ـــ كاب ـــ مارتين جنوب فرنسا (قرب مونتي كارلو والحدود مع إيطاليا). وقد صرّحت فرانس، ابنة الفنان الراحل، التي تشرف على مؤسسته (تحوّلت أخيراً إلى «منشورات جاك بريل»)، بأنها حاولت مراراً شراء تلك الممتلكات، «لكن المدعوّة سيلفي كانت تجزم أنّها لا تملك شيئاً».
بعد موت العشيقة تهافت ورثتها على بيع المجموعة عام ٢٠٠٣، فمُنعوا مرّة أولى بأمر من القضاء، قبل أن يعاودوا الكرّة هذه المرّة بنجاح. ولم يعلن عن أصحاب الحظّ السعيد الذين اقتنوا غيتار بريل، أو أسطواناته القديمة، أو مخطوط أغنية «أمستردام»...