في «أنا الشهيدة سناء محيدلي»، نزعت لين قديح عن «شخصيتها» هالة البطولة... وعزلت فعل الاستشهاد عن خلفيّته الأساسيّة
سناء الخوري
سناء محيدلي، الاستشهاديّة الأولى، والـ«بيغ بانغ» أو الانفجار الأوّل في الكون الذي تشكّلت منه الكواكب والمجرّات. لحظتان تختلفان في السياق والزمان والمكان جمعتهما لين قديح في تجهيز ثلاثي Triptyque «أنا الشهيدة سناء محيدلي» الذي عرضته في مسرح «بيريت» في الجامعة اليسوعيّة. قدّمت قديح ثلاثة أبعاد من شخصيّة سناء كما تراها: الشهيدة والقدّيسة والإنسانة. أمّا المواد المستخدمة فتراوح بين الفيديو والتصوير الفوتوغرافي والتسجيل الصوتي لإبراز لمحات من سناء كما تفهمها لين لتملأ أبعاد تجهيزها الثلاثة.
في وسط المسرح، وضعت لين شاشةً وفي داخلها أيقونة، عروسٌ بفستان أبيض: إنّها سناء محيدلي تصوّرها لين كما يصوَّر القدّيسون. وبين الحين والآخر، تشهق الأيقونة كأنّها تختنق. «يختنق الشهداء لكثرة ما استخدمناهم وحمّلناهم عبئاً كبيراً يُخرجهم من طبيعتهم الإنسانيّة كناس يخافون ويقلقون ليحوّلهم إلى قدّيسين» تقول لين. تتوقّف لتعيد تشغيل الفيديو الذي يبثّ على الخلفيّة البيضاء وسط المسرح، ويتكرّر طوال العرض. الفيديو رسالة سناء التي بثّت بعد تنفيذها عمليّتها على شاشة «تلفزيون لبنان»، يتبعها ثلاث نسخ من رسالتها إلى والدها: هناك النسخة الأصليّة مع رسالتين محت قديح في الأولى كلّ ما قالته سناء عن الدم، وتخيّلت في الثانية رسالة يمكن أن تكون سناء قد كتبتها لو لم تستشهد.
أمرٌ مختلف نلحظه في الحائط الذي يحتلّ الجهة اليسرى من المسرح. إذ ركّبت لين وجه سناء على صور أخرى في محاولة لتخيّل حياتها اليوم لو اختلف خيارها ولم تستشهد. فإذا بنا نراها جالسة بين أصدقائها وأولادها، على البحر أو في حفلة. وفي النهاية نراها تتأمّل في معرض صور للشهداء. تلك الرسائل والصور الفوتوغرافيّة تتخيّل حياةً بعيدة عن خيار الشهيدة.
في خيارها الفنيّ هذا، تريد لين أن تطرح «أسئلة للنقاش»: «من هو الشهيد إذا كانت كلّ جهةٍ تحتكر شهداءها وتصنّف شهداء الآخرين؟»... وأين «البعد الإنساني للشهداء إذا كنّا نراهم فقط في صورة الأبطال ولا نراهم كما هم، ناس عاديّون يحبّون، يكرهون ويخافون؟». في النهاية، تصرّ قديح على أنّها لا تريد أنّ تقدّم أفكاراً جاهزة، بل بحثاً عن الحقيقة، فهي تحاول أن تظهر لحظات التردّد لدى سناء في الشريط المصوّر، وأن تبحث عن مكمن الحقيقة والخيال في شخصيّتها.
تعتقد الفنانة الشابة أنّ فعل الإنسان لا يغيّر شيئاً في هذا الكون الكبير. لهذا وضعت على الحائط الذي احتلّ جهة اليمين من المسرح توابيت خشبيّة، عليها أرقام وأسماء قرى تشبه تلك التي عاد بها الشهداء... ووضعت اسمها على التابوت الوحيد المفتوح، وفي داخله شريطٌ يقف المشاهد أمامه ويضع السماعات على أذنيه ليستمع إلى شرحٍ حول خطورة «صادم الهدرون الكبير» الذي جرّبه العلماء أخيراً خصوصاً إذا ما تشكّلت من جرّائه ثقوب سوداء.
لين قديح تدّعي أنّها تفصل عملها «الفني» عن أيّ بعدٍ سياسي، لأنّها لم تعد تريد أن ترى أبطالاً... يهمّها التركيز على البعد الفردي للإنسان، بعيداً عن أيّ جموح مثاليّ في الدفاع عن أي قضية. لكن تلك البراءة «اللاسياسيّة» تخفي في عمقها خطاباً سياسيّاً جذريّاً وخطيراً، لا يعلن عن نفسه. الخطورة تكمن في عزل الفعل الاستشهادي عن السياسي الذي يرتبط به. هل يمكننا أن نبتعد عن السياسة حين نتناول موضوعاً سياسياً بامتياز؟ ما يقود إلى سؤال آخر حول مكمن الوجع في أيّ عمل فنّي، وحول الغاية السياسيّة الخفيّة (اللاواعية ربما) لكل إبداع. لا يهمّ الفنانة أن تخوض في السياسة، وبالتالي فهي تغيّب تماماً الاحتلال الإسرائيلي ـــ علماً بأنّه لا يزال أمراً واقعاً بعد كل هذه السنوات على انبراء سناء محيدلي لمقاومته! نعم، يمكننا أن نتخيّل كيف يمكن أن تكون حياة سناء اليوم، لولا الاحتلال الإسرائيلي. لكن... لنترك السياسة جانباً من فضلكم!