خليل صويلحلم يشأ ريجيس دوبريه في زيارته الأولى إلى دمشق، أن يستعيد سيرته القديمة الصاخبة. المفكر الماركسي سابقاً الذي عاش شبابه الأول في كوبا، قبل أن يلتحق بغيفارا في بوليفيا ويُسجن أربع سنوات، ثم يذهب إلى تشيلي ويلتقي سلفادور الليندي، وبابلو نيرودا، طوى تلك الصفحة المثيرة من حياته، والتفت إلى مشاغل أخرى، يعتقد بأنّها أكثر جاذبية وراهنية. رأى صاحب «حياة الصورة وموتها» أنّ العولمة تنطوي على أسرار ومفارقات تركت آثاراً غير متوقّعة على الكوكب. وأوضح في المحاضرة التي ألقاها، أول من أمس، في «المركز الثقافي الفرنسي» في دمشق بعنوان «مفارقات العولمة»، أن المدينة العالمية لم تحدث الاندماج، بل أسهمت في انفراط عقد الصلة بين الثقافات، وأدت إلى انقسام الكوكب إلى أحياء مغلقة على نفسها. وبدلاً من أن تتلامس الحضارات، احتكت بشدة فنشأت الأصوليات كنوع من الدفاعات الوقائية. وقال دوبريه: «هناك اليوم إرادة جديدة لصون الهوية، فنحن لسنا أمام قدَر مشترك بل أمام تفجّر الهويات، وهذا ما لم يتوقعه أنبياء الليبرالية». وهكذا لم تتمكن «بطاقة الاعتماد» من أن تكون بديلاً من «بطاقة الهوية»، وإذا بالعولمة ليست نزهة كما كان متوقعاً، بل اختلال في التوازن بين ثقافات متباينة، لأن العولمة في نهاية المطاف لم تميّز بين الزمن التقني والزمن الثقافي، فـ«الكوكب المالي لن يصبح كوكباً ثقافياً».
وهذه الفكرة من مفارقات العولمة أيضاً، ذلك أن «عاصفة اللاتمايز» لم تجتح كل شيء في طريقها، بل خلقت خلافات روحية تتعلق بالذاكرة الجمعية والهوية والتاريخ، لأن فحصاً بسيطاً لتحولات الخريطة العالمية، سيكشف أن «الثقافة الرقمية ليست هي الثقافة الكتابية»، وأن الكمبيوتر أو آلة الحلاقة الكهربائية المتناسخة عالمياً، لا تلغي بالضرورة الحواجز واللغات والهويّات المحلية. وهذا إخفاق آخر من إخفاقات العولمة كمحصلة لتوحّش اقتصادي، أسهم أخيراً في إعادة الاعتبار إلى الموروث المحلي المندثر، وتجذّر السرديات الكبرى بسبب سعي العولمة إلى «تسطيح الألوان المحلية» و«بلقنة الثقافات». هكذا ترافقت الحداثة مع قفزة إلى الوراء، تحفر في الفوارق الإثنية والدينية، وتقيم الحواجز بين المجموعات البشرية. وقال دوبريه أخيراً: «إنّ حاجز الفصل العنصري الذي أقامته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، هو حاجز العار والكراهية».