نوال العلي«أقطف بضع جماجم من الشجرة التي أثمرت أخيراً، أقوم بطهيها جيداً، أتذوّق حسائها لأختبره، فتعلق قطعة معدنية صغيرة في فمي، أخرجها، أتفحصها ملياً، حشوة سن ذهبية. أهرع إلى كتاب الطبخ الذي أقوم بتأليفه، أضيف إلى حاشيته ملاحظة هامة؛ جماجم نخرها الذهب لا تصنع حساءً طيباً». المقطع من «سفر الرؤى» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) وهي مجموعة قصصيّة جديدة للتشكيلية والقاصّة الأردنية بسمة النمري. السريالية مطلقة فيها كل شيء ممكن ومصدّق. وكل أشياء العالم يمكن أن تؤذي. السيجارة تحرق الأصابع والوردة تدمي، الرعب مسألة يومية وممارسة عادية.
أجواء القصص القصيرة في غالبيتها من هذا النوع، تعمد إلى المفارقة، استخدام القفلة غير المتوقعة مسألة متكرّرة. كأننا أمام بنية قصصية تقليدية في مضمونها. فعنصر الخاتمة أو الخلاصة ضرورة لا بد منها. بل إن شرط حدوث كل هذه الغرائبيات والفانتازيات المتعاقبة الوصول إلى حتمية باب الواقع. الرمزية عالية جداً تقترب من لوحات السرياليين الجدد، حيث البيوت تطير والطبيعة تتمشى والجمال المتفق عليه يفقد منزلته.
من قصة «بيتي» مثلاً «بيتي المسحور كل شيء فيه يطير! حين أغلق بابه... تنفلت أشياؤه من عقالها»، تبدأ القاصّة في وصف الأثاث المتطاير وفنجان القهوة الذي ينحني نحوها ليسقيها، وهي على مقعد يدور في فضاء المنزل، ويتابع خيالها إفاقة كل منطق اللامعقول الممتع الذي ينتهي عند أول إشارة على أنّ الواقع يحدث، لكن خارج المنزل، والإشارة هنا جرس الباب الذي «حين يقرع... يموت السحر ويرجع البيت إلى سكونه من جديد». ولا ندري لماذا لم تختم القاصّة حدوتتها المسحورة هنا، فتضيف «ما زلت أنتظر رفيقاً حين يدق بابي لا يبطل السحر». نشعر بأنّ القصة انتهت قبلاً، وأن الكليشيه الأخير أفسد الخاتمة وأبطل شيئاً من سحرها.
لغة النمري لا تخاف من شيء، تتحدث بقرف واضح وهدوء مفزع ومجازات شعرية وفراسة الصياد الذي يعرف من أين تؤكل كتف القارئ. فلا يستطيع فكاكاً من المجموعة ما إن يبدأ في أول مقطع منها.
قصة «فريسة» تظهر كأنها مقطع وحشي من فيلم عن عالم الحيوان، تتحدث صاحبة «منعطفات خطرة» عن جثة ملقاة في دغل تفترسها الوحوش. وكالعادة، تغرق في تفاصيل ما يحدث، فتنهض الجثة من مكانها لتغتسل بعد أن يفرغ منها الجميع وتعيد خلق نفسها. ولكنها «مثل كل مرة، بعد أن يسري الدم في اللحم... تجر ذاتها من جديد إلى حيث أكلت».
لم تخلُ مجموعة النمري الخامسة بعد إصدارها «أقرب بكثير مما تتصوّر» مما يعكرها. وضعت الكاتبة مجموعة تأملات لا تنتمي إلى أجواء الكتاب التي بدأت قوية وصادمة. فنجد الكتاب، بدلاً من أن يعلو خطّه البياني الإبداعي، آخذٌ في الهبوط. هناك نصوص أو خواطر وتأملات لا تحمل بنية القصة مثّلت نقطة الضعف في الكتاب. إذ يتوقع المرء أن يبقى مع النمري على وتيرة الاختلاف نفسها، ولكن هذه ليست هي الحال. من هذه النصوص «أبرياء» و«ثعبان».
إنه كتاب مفاجئ في عالم القصة القصيرة الذاوي، اعتمد تكثيف لحظة السرد، القصص قصيرة لا تتجاوز كل واحدة صفحة. كأنها لقطات سينمائية لفنان يعمل على إخراج مقاطع من رعب حياته الذهنية.