ولادة مخرج... ومواطن في «أيام بيروت السينمائيّة»بيار أبي صعب
يبدأ الفيلم مع صياح الديك. نكتشف البيت من الخارج، قبيل انبلاج الفجر، في لقطة قريبة. الكاميرا ثابتة، وستبقى كذلك معظم الوقت، مزروعة في قلب المشهد، جزءاً منه، كأنما لتعانقه وتحيط به من الداخل. سمعان في المطبخ يعدّ قهوته. شيئاً فشيئاً يطلع النهار، على السيارة المهترئة وسط الثلوج. يستقلّها الرجل ويمضي. كان يا ما كان... «عين الحلزون»، قرية صغيرة في الجبل اللبناني. قرية لم تعد موجودة، وهي مع ذلك حاضرة بقوّة... في ذاكرة أهلها الموزّعين اليوم على مدن وقرى بعيدة. حاضرة تحت أنقاض البيوت والكنيسة والكاراج والمعصرة... في أغنيات وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح. في ذكريات ماض أليم، مكبوت، ممنوع من الخروج إلى العلن، لأنّه يتناقض مع الخطاب «التعايشي» (اللائق سياسيّاً) المفروض على الناس في هذا البلد الغريب العجيب الذي اسمه لبنان.
«سمعان بالضيعة» باكورة سيمون الهبر (١٩٧٥) يندرج بامتياز في خانة «الوثائقي الإبداعي»، حسب التصنيف العزيز على قلب «أيام بيروت السينمائيّة» التي افتتحت بالعمل المذكور دورتها الخامسة، مساء الجمعة الماضي. إنّه فيلم عن الأطياف. أطياف عالم قديم، قضت عليه الحرب (الأهليّة)... ومرّ عليه الزمن. وصادر «التطوّر» أي احتمال لانبعاثه. أطياف تهيم في القفار، تحوم حول هذا المكان التراجيدي (طيبة؟ طروادة؟) الذي يصوّره سيمون الهبر ببلاغة وإتقان، بسلاسة وشاعريّة وهدوء. يبدو المكان من اللحظة الأولى بلا مستقبل. فماذا عن الماضي؟ أو بالأحرى دعنا الآن في الحاضرالحاضر يتجسّد في رجل، هو الساكن الوحيد لقرية الأشباح... ناطورها بكلّ ما لهذه الكلمة ــــ «الرحبانيّة» بامتياز ــــ من معنى. رجل خارج على الأنماط والقواعد، لا يشبه الصورة المألوفة للفلاحين، ومع ذلك فهو يعيش بين أبقاره ودواجنه وأرضه منذ بضع سنوات. يصحو مع الفجر. يروي الأرض، يحلب البقرات، ويطعم الجياد، يشقف الحطب، ثم يبيع الحليب ويشتري التبن، إلخ. كأنّه آت من سهوب Larzac الفرنسيّة التي كانت في السبعينيات محجّة لحركات الاحتجاج اليساريّة والسلميّة (الفلاحون ضدّ العسكر)، والعمل اللاعنفي والعودة إلى الأرض. سمعان الرجل ذو الضفيرة الطويلة، والشارب الكثّ، والابتسامة الدائمة، والحديث العذب، وخفّة الظلّ، والحضور الآسر... هو «بطل» الفيلم، بل لنقل الراوي، الشاهد، الوسيط... لأن البطل الحقيقي هو القرية نفسها، عين الحلزون. وسيمون الهبر بهذا المعنى وريث غير مباشر للأخوين تافياني، معلّمَيْ السينما الإيطاليّة.
هذا الرجل اللطيف المعشر، رغم أنّه يعيش وحده معزولاً كإنسان الكهوف، هو عمّ سيمون صاحب الفيلم الذي يتبعه من الإسطبل إلى غرفة الجلوس، ومن المطبخ/ الحمّام إلى باحة البيت فـ ... حافته المطلّة على السكينة والخواء. اختار العمّ سمعان أن يعود إلى قريته التي دُمّرت في حرب الجبل (١٩٨٣)، وهرب أهلها إلى غير رجعة: ما عادوا يأتون إلا في المواسم، لقطاف العنّاب، أو لري الأرض والاعتناء بها، وتحريك مياه الذكريات الراكدة ـــ التي تكوّن نسغ الفيلم ـــ ثم يعودون من حيث أتوا قبل غروب الشمس... أما سمعان، فترك المدينة والوظيفة، وجاء إلى هنا ليصير «حاكم نفسه». لقد اختار طوعاً تلك العودة إلى أحضان الماضي، قريباً من قبر أمّه وأبيه (كيف قتلا؟ هذا من الأمور التي يستحسن عدم الخوض فيها). في بيت العائلة، أو ما تبقّى منه، علّق صورتهما المركّبة، بالأبيض والأسود، على أحد الجدران. وراح يعيش مع بقراته، يسجّل في دفتره تواريخ زواجها وولادتها وموتها... سنتعرّف أيضاً على الحصانين والكلب والقطّة زيزي... كما نتعرّف إلى بعض من سيرة عائلته وقريته وحياته.
يحكي العمّ عن نفسه ببساطة، يحب الكاميرا ويعرف كيف يخاطبها من دون أن يتنازل عن صدقه. يقف على مسافة نقديّة من القوالب الاجتماعيّة السائدة (مؤسسة الزواج مثلاً)، ويمتلك قدرة على الضحك من الأشياء ومن نفسه: المرأة الأولى التي أحبّها، وأخذها القدر، كانت تشبه ميراي ماتيو، والآن هو يبحث عن امرأة مثل شاكيرا... لكن شاكيرا لا تناسب مثل هذا المكان ـــ يستدرك ــــ إذ لا يسعها أن «تنطّ» على كيفها. يسترسل سمعان في بوحه، في طقوسه اليوميّة. ومن خلال حياته، شيئاً فشيئاً نخرج من الخاص إلى العام، من العائلة إلى القرية، من القرية إلى الوطن. ينتقل المخرج إلى محاورة شهود آخرين، يحكون عن القرية أيّام زمان، عن الحرب، عن التهجير... عمّا يمكن، أو لا يمكن، أن يصلحه الدهر. لكن ماذا حدث؟ من هدم المنازل؟ أهل القرية المسنّون يعرفون ولا يعرفون. أحدهم يقول إن الإسرائيليين قصفوا ربّما، والآخر يقول إن الجيش الإسرائيلي عندما انسحب أعطى الضوء الأخضر للاشتراكيين كي يبدأوا هجومهم! أحدهم يقول إنّها «القصعة»: ليست هناك لحمة أهليّة ممكنة، إذا لم نأكل جميعنا من «قصعة واحدة» مثل تلاميذ المسيح! تلك القصعة هي بيت القصيد. سمير يأخذنا إلى المتراس، أو الخندق الحربي القديم: «أنا من الذين شاركوا في حرب الجبل». يبدو مبحراً في البعيد يثقل كاهله الندم، وتحرقه الحسرة: «لا نعرف كيف بدأت تلك الحرب... لكننا نعرف كيف انتهت». تكاد تدمع عيناه، يخرج من الكادر، ليتركه مشرّعاً على الفراغ. لا أحد يمكن أن يعيب على شريط سيمون الهبر غياب الأمانة والنزاهة!
«سمعان بالضيعة» (والعنوان يلعب على مثل شعبي المقصود منه أن سمعان لا يصغي) فيلم عن الذاكرة. الذاكرة المطموسة، المقموعة، الرابضة في الأعماق. كيف تمكن استعادتها؟ كيف نتحمّل مسؤولياتنا عما جرى؟ من يجرؤ على هذه الخطوة التي يمكن أن تنجّي الجماعة من كوارث مقبلة؟ كل شيء هنا يجري في منتهى الطبيعيّة. الطريقة التي يحاور فيها السينمائي الشاب عمّه، وسائر أهل القرية. الطريقة التي يصوّر بها المكان، برؤيا هندسيّة صارمة ومحكمة. تقطيع ديناميكي يجمع بين اللقطات السرديّة واللقطات الاعتراضيّة، اللقطات العامة والأخرى المقرّبة، الخارج والداخل. زوايا التصوير نفسها تعطي للفيلم حيويّته وهويّته. وكذلك استعمال الموسيقى المرهف، والمقتصد، والمكثّف دراميّاً، والأغاني الشعبيّة التي يطلع بها العمّ وهو يحلب بقراته أو يتأمل الشفق عند المغيب. إنّه فيلم مونتاج بامتياز. المخرج فكّر في كل لقطة، دورها وموقعها من الشريط، ونحت كلّ حركة، تاركاً للزمن أن يأخذ مجاله في المشاهد.
سيمون الهبر (خريج الـ ALBA في لبنان، والـ FEMIS في باريس)، عاد إلى قرية أهله، يبحث عن أصل الحكاية. مثل كثيرين من أبناء جيله ــــ وممن سبقهم أحياناً ــــ يحفر في أرض قريبة، يشتغل على مكان أليف، هو جزء منه. يضع ذاته، في قلب العمل الفنّي. يسأل ويصوّر ويغور في الجراح الجماعيّة بعيداً عن ثقل الأيديولجيا والمواقف المسبّقة. «سمعان بالضيعة» فيلم مشوّق ومؤلم وناضج ومتقن. يعلن ولادة سينمائي حقيقي يجمع الشجاعة والموهبة. فيلم ليس فيه مكان لحقد أو تعصّب، لفئويّة أو ضغينة. إنّها ولادة «مواطن»، على ندرتهم في هذا الزمن الصعب!


جيلاني السّعدي ضحيّة الرقابة اللبنانيّة

بيار أبي صعب
6:00 مساء اليوم «براميل صبرا» لشيرين أبو شقرا،7:00 «المراوغة» لعبد اللطيف قشيش، 7:30 : «هيه! لا تنسي الكمون» لهالة العبد الله، 9:00 «الأندلس» لألان غوميس، 10:00 «روما ولا أنتوما» لطارق تيغيا ـ صوفيل (الاشرفية) ــ للاستعلام: 01/204080