كتّاب فلسطينيّون يواصلون رحلة المنفى. منفى الداخل أشدّ مضاضةً أحياناً. أخَوفٌ من المواجهة، أم انتشال تكتيكي للروح والجسد المعذّبين من الراهن الموحل؟
غزّة ــــ نصر جميل شعث
أحمد دحبور ومحمد حسيب القاضي شاعران كبيران بالمعنى الوطني الذي رسمته مراحل الثورة الفلسطينية التي برزا خلالها. استقرّا بعد المنفى في غزة لسنوات تلت نتائج اتفاق «أوسلو». وها هما يفضّلان مجدداً المنفى على البقاء في هذا «الجزء المتاح من الوطن»، على حدّ قول الشاعر أحمد دحبور الذي أصابته وعكة صحيّة أخيراً في دمشق.
مثل جيله، نشأ دحبور المولود في وادي النسناس في حيفا في أواسط الأربعينيات على خلفية هي خليط من وجودية وقومية، وكانت القوائم المشتركة لما يُسمَّى جيل الستينيات تشمله من حيث كتابة قصيدة التفعيلة والالتزام بالثورة الفلسطينية.
ويأتي خروجه من غزة ردّ فعل إزاء ما يجري في هذا الجزء من تحوّلات دراماتيكية، لا تجعل من هذا المكان أفقاً لتعددية الألوان. تحت محنة المثقف، وبعد تعرّض الشاعر لجملة مساءلات واعتقالات موقتة على خلفية الرأي الذي لا يناسب لوناً فلسطينياً بعينه... وبعد محاولات متكررة منه للخروج إلى رام الله، وافقت سلطات الاحتلال على منح الشاعر تصريحاً للانتقال إلى الضفة الغربية. وكان الاحتلال قد رفض العام الماضي منح دحبور تصريحاً للانضمام، في رام الله، إلى الوفد الثقافي الذي مثّل فلسطين في فعاليات «الجزائر عاصمة الثقافة العربية ـــــ 2007». أحمد دحبور الآن في مدينة حمص السورية التي وصلها عبر الأردن قبل أيام سبقت رحيل الشاعر محمود درويش. يعيش في عزلة واكتئاب وجلوس مع ذاته الوطنية لمراجعة فهرس المكابدات والخسارات!
خروج دحبور من غزة، يحمل في معناه عدم قدرة المثقف الفلسطيني، العائد إلى أجزاء من أرضه، على الصمود والبقاء بعد إصابة مشروع «أوسلو» بجروح خطيرة! فما عسانا نطلق على هذه الواقعة لدى المثقفين! هل هو جبن؟ أم هو انتشال تكتيكي للروح والجسد المعذّبين من راهن وطني موحل؟!
كان وجود دحبور في غزة، إبان العافية السياسية (الوهمية) والصحية للراحل ياسر عرفات، يمثّل إحدى الركائز الثقافية الحاضرة في المشهد الأدبي والثقافي الفلسطيني، لما كان يتمتع به من رمزية وطنية عايشت تحولات الثورة الفلسطينية. إذ كان من مقرّبي عرفات الثقافيين الذين كانت توكل إليهم مهمّات معينة ودقيقة... كزميله الشاعر محمد حسيب القاضي. غذّت كتب هذا الأخير أغاني الثورة الفلسطينية القديمة، إضافة إلى شعريته التجريبية في العقد الأخير، وشارك أيام تونس في إعداد البيانات والخطابات مع زملائه المقرّبين من عرفات.
محمد حسيب القاضي انصرف أيضاً إلى منفاه الاختياري بعدما استشعر خطورة التناحر الفلسطيني الداخلي، وعايش جزءاً من إرهاصاته. وفي خضمّ عيشه اليوميّ لمرارة المقارنة بينه وبين غيره من رفقائه ممن حظوا بوظائف «مريحة» في نظام السلطة، ذهب إلى القاهرة، العاصمة العربية التي لا تفصلها عن غزة سوى ستِ ساعاتٍ بسيارة المرسيدس، تقريباً.. وطبعاً من دون عراقيل أو إجراءات أمنية.
شعراء وكتّاب وصحافيون يقترفون المنفى على مضض. ولعلّ ليس آخرهم شاعر وروائيّ غادرا للتو القطاع للاستقرار، كلّ في عاصمة عربية. فذلك الشاعر صاحب عنوان «البقاء على قيد الوطن» الذي عاش المنفى قبل المجيء على دراجة «أوسلو»، تمكّن من الحصول على تصريح من الاحتلال الإسرائيلي لزيارة رام الله.. ومنها إلى إمارة أبو ظبي. ومثله فعل الروائيّ والقاصّ الغزاويّ الأصلِ والإقامة الذي اختار هو الآخر القاهرة «ملاذاً» قربَ ابنته التي تدرس في إحدى جامعاتها... هذا على الرغم من أنه يُعتبر، الآن، واحداً من الأسماء البارزة في الأدب السبعيني الداخلي التي ركّزت أعمالها على إضاءةِ الظروف السياسية والاجتماعية في المجتمع الفلسطيني في ظلّ حكم الاحتلال المباشر لقطاع غزة صانع الانتفاضات وركيزة أيّ تسوية سياسية هشّة!
هذه هي بعض الصور والخيارات المؤلمة أمام المثقف، في هذا الجزء المتاح من الوطن: رواجٌ لفكرة المنفى، وللأغنية الفولكلورية: «وين ... ع رام الله»!