Transfiguration Apocalyptique الجنوبي التائه في غاليري «أجيال»بيار أبي صعب
كلا، هذه ليست كارثة! بل صورة عنها، محاولة جديدة لتشخيصها. كيف نصوّر الكارثة؟ السؤال طرح بعد المحرقة النازيّة، بعد هيروشيما. أدورنو قال إن الشعر مستحيل بعد أوشفيتز، وذلك لم يمنعه من الإقبال على شعر بول سيلان. أيمن بعلبكي (1975) يعيد طرح السؤال من بيروت، في معرضه الحالي الذي تستضيفه «غاليري أجيال» حتى نهاية الشهر. بيروت ما بعد تموز 2006. الفنان الشاب شاهد على الكارثة، ضحيّتها غير المعلنة، بطلها الهامشي وراويها الصامت. لكنّه لا يسجّلها أو يوثّق لها، بل يروي لنا قصصاً أخرى، تمّحي فيها التفاصيل شيئاً فشيئاً لتصل إلى نوع من الأسلبة أو التجريد.
في معرضه الشخصي الثالث، يعود أيمن بعلبكي بمجموعة لوحات وأعمال تجهيز جديدة (أكريليك على قماش وخشب، ومواد مختلفة، 2006 ــــ 2008)، ليرمّم المشهد الداخلي المتصدّع. ينطلق من هياكل العمارات المبقورة والمنهارة (في ضاحية بيروت الجنوبيّة)... ومن أدوات أليفة أخرى هي عدّة المهجّرين، يصنع منها تجهيزات تراجيكوميديّة. يتحاور بشكل من الأشكال مع أنسلم كيفر، الأستاذ الألماني الذي أخذه إلى النيو تعبيريّة. كيفر أحد رموز «الوحشيّة الجديدة» في ألمانيا، وريث «أوشفيتز» الذي حاول أن يرسم خراب العالم بعد الـ«شوها». وبالحدّة الرؤيويّة نفسها التي تحمل تأثرات مباشرة بمعلّمه، يرسم بعلبكي ضاحيته، وطنه، عالمه، بعد العدوان الإسرائيلي.
ليس مؤرّخاً ولا موثّقاً إذاً، بل متأمل صامت. يسلط على زمنه نظرة أخلاقيّة حائرة. في الحقيقة أيمن بعلبكي يبحث عن وطنه. يكرر المشهد نفسه، بضربات قاسية وألوان قاتمة، كما ليتطهّر منه، ليحوّله إلى سراب ويستعيد العالم قبل لحظة الانهيار: فوق شرفات البنايات المدمّرة يتراءى لنا الغسيل الممدود، كأنّه من حياة أخرى. ترى من يسكن الخراب؟ لعلّها ذواتنا الهاربة، الضائعة... يرسم بعلبكي «القيامة» (Apocalypse بالمعنى الديني)، ليشفى من ذاكرة الحرب التي ليس منها شفاء. تتماهى لديه عند لحظة واحدة، صور الخراب في كل الحروب، السابقة واللاحقة، المتخيّلة والمعيشة. أيمن عمره من عمر الحرب الأهليّة، يجرّ خلفه ملحمة الهجرات المتلاحقة التي تختصر حياته وحياة عائلته. مراهقاً، يروي لنا أنّه يوم أراد أن يحتفظ بذكرى من عمارة الحيّ الذي سيهجره، لم يجد سوى طريقة واحدة: أن يرسمها. لنستعرض تلك المحطات الأساسيّة في ذاكرة مثخنة بالحروب والهجرات: من الجنوب إلى بيروت أولاً وأساساً، ثم من نواحي مخيّم تل الزعتر (مخيّم المذبحة الفلسطينيّة) إلى وادي أبو جميل (حي اليهود)... وصولاً إلى حارة حريك.
هنا، في «الحارة»، اختبر الخراب الأعظم ذلك الصيف. عاد بعدما صمتت الطائرات المغيرة ليكتشف هول المشهد. تلك العمارات المدمّرة، سيرسمها من دون توقّف، في سلسلة من اللوحات الصغيرة (24 × 30 سنتم، أكريليك على قماش) أولاً، ثم في لوحات شاهقة تعيد إنتاج المشهد ذاته حتى الاستنفاد. كل لوحة بناية. بعضها بنايات موجودة فعلاً، وبعضها الآخر متخيّل. هذا الفنّان يرسم تلك الهياكل بإتقان كمن يبنيها، يقتفي أثر الخراب الداخلي، يهندسه، ويلوّنه بلطخات فرِحة أحياناً: أزرق وأصفر وأحمر وأبيض، حتّى يبدو منجزاً ومكتملاً. يمكننا الحديث هنا عن هيكلة الخراب. «انهض، سيزيف»، أو «صباح الخير وادي أبو جميل» أو أيضاً «شارع عبّاس الموسوي ـــ عمارة ياسين» حيث كان يقطن... شيئاً فشيئاً تختفي الملامح السرديّة، الواقعيّة، للمباني، تتجرّد وتمعن في الضبابيّة القاتمة التي تختزن تحت سطحها براكين من المشاعر والانفعالات والصراخ. يبدو هادئاً هذا الفنان، بأناقته وتهذيبه واللفة التي تعتمر رأسه، والقرط في الأذن اليسرى. لكن احذروا منه، إنّه يخفي يتماً دفيناً، مثلما لوحاته تستبطن عنفاً لا يقال. عالمه لجّة هائجة ومقلقة، سوداويّة وغامضة، رغم لمسات السخرية حيناً، ونوطات الغنائيّة المضيئة تارة أخرى.
ومن اللوحة إلى التجهيز تقصر المسافة في تجربة أيمن بعلبكي. على بعض اللوحات زرع عنوان اللوحة بالنيون المضاء: «سيزيفوس»، أو «أحرقه» على لوحة محايدة ظاهريّاً، تمثّل إطاراً مطاطياً على خلفيّة مزهرة تحيل إلى قماش الـ«كريتون» العزيز على القرويين والمهاجرين التائهين في أدغال المدينة. هذا القماش يستعمله غالباً. منه يصنع صرر المهجّرين وأرائكهم، ثم ينوّع (يقسّم) عليه بريشته. تلك «البقجة» تتكرر في تجهيزات المعرض: المقلاة والمكنسة والطنجرة والغالون والفرشة والبابور والديك والخروف... منها يصنع أعمالاً تختصر هجرتنا الداخليّة، وتحكي أيضاً ضيقه من الريف، ومن استحالة الفضاء المديني. يستحضر أيمن إدمون جابيس هنا: «أشيّد بيتي» عنوان مستعار من أولى مجموعاته الشعريّة. جابيس أيضاً. التيه اليهودي وعبء أوشفيتز. مرآة نموذجيّة لهذا الجنوبيّ التائه في مواجهة الهمجيّة الإسرائيليّة.
«تيه» هو عنوان تجهيز آخر، كتب بالنيون على كتلة من الأشياء التي رشّها بالذهبي، بمادة البوليريتان التي تستعمل لطلاء السيّارات. الذهبي أيضاً يغلّف «العين بالعين»، ذلك التجهيز الهائل الذي يمثّل واجهة محلّ وستارته المعدنيّة المرفوعة، وقد علّق عليها مجموعة بورتريهات ـــ «أيقونات» يقول جو طرّاب ـــ تذكّر بمرحلته السابقة: رؤوس لمحاربين و/ أو ضحايا رؤوسهم مغطاة بكلّ أنواع القبعات والكوفيات والخوذ والأكياس. ماذا أيضاً؟ «يا إلهي» إحدى تحف المعرض: عربة بائع متجوّل انتصبت عموديّاً ليرسم عليها رأس فدائي بالكوفيّة ارتدّ إلى الخلف، لا نكاد نرى سوى عينيه تحدقان إلى الأعلى، حيث النجوم متمثلة بمصابيح كهربائيّة صغيرة مزروعة على سطح اللوحة.
في واجهة الغاليري يقع الزائر على واحدة من أجمل لوحاته. فوق أرضيّة من طبقات الملصقات الإعلانيّة المتراكمة التي انتزعها عن أحد جدران المدينة، (هو الباحث عن أسطح ومساحات جديدة مرتبطة بالمكان)، رسم إطاراً مطاطيّاً آخر، على خلفيّة مذهّبة... ثم لم يلبث أن حكّ تلك الخلفيّة فبانت بصمات الزمن وخربشاته ولطخاته. «أنا مشغول باللون الذهبي ـــ يقول ـــ فهو القاسم المشترك بين الذوق الشعبي والأيقونة، بين الكيتش والمقدّس». أيمن بعلبكي رسّام الفراغ والخسارة والغياب.


معرض أيمن بعلبكي: حتّى 31 الجاري ــــ «غاليري أجيال» ــــ شارع عبد العزيز، بيروت: 01/345213