حسين بن حمزةتبدأ «أسوار» على لسان سالم، حارس السجن الذي ورث المهنة بعد تقاعد والده. الرواية كلها تدور في السجن، لكنها مرويَّة من وجهة نظر ترى مجتمع السجناء من خارجه. هناك أعمال عربية كثيرة تناول كتّابها عالم «السجن السياسي»، حيث يكون البطل مثقفاً حزبياً يدفع ثمن أفكاره. هذه «البضاعة» التقليدية مسحوبة إلى الخلف في رواية البساطي. بالكاد يعثر القارئ على ما يُذكِّره بروايات السجن السابقة. ثمة زنزانات ومعتقلون وحفلات تعذيب... لكن القارئ مدعوّ إلى عالم آخر يُحاذي عالم السجناء.
يظن القارئ أن تخلّي البساطي عن كل العدّة التقليدية لروايات السجن سيُوقعه في ورطة، ثم يكتشف أنّ ما أهملته تلك الروايات هو الأكثر جدارة بأن يُسرد.
لكن استهداف المهمل والعابر في عالم السجن لا يجعل نجاح الرواية أمراً بديهياً. صاحب «بيوت وراء الأشجار» يراهن على نبرة سردية مواربة وخفيضة لا تواجه الحدث الروائي مباشرة. النبرة هنا هي بطلة الرواية وصانعة شخصياتها وأحداثها في آن. بمجرد أن يُكلف البساطي حارس السجن مهمة الراوي الرئيسي، ينجح في نقل الرواية كلها إلى منطقة سردٍ مختلفة. وعلينا ألا ننسى أنّ هذا التكليف يضع الرواية نفسها أمام تحدٍّ خطر. فالحارس هنا هو شخصية بسيطة مطلوب منها أن تروي وقائع وموضوعات تتجاوز قدراته الذهنية.
منذ بداياته، انحاز البساطي إلى فكرة أنّ إيقاع الكتابة وتقنياتها الداخلية أهم من موضوعاتها. قراؤه الأوائل ما زالوا يتذكرون نبرته الغريبة في قصصه ورواياته المبكرة. لعلّ هذا الانحياز يكشف عن تسرُّب نبرات غير عربية إلى ممارسته الروائية. لن يكون القارئ ملوماًً إذا تذكر كافكا وفولكنر وتشيخوف ودوستويفسكي أثناء قراءته لأعمال البساطي. البساطي نفسه لا يُخفي ذلك، بل يعترف، مثلاً، بأنّ تقنية كافكا في «المسخ» و«المحاكمة» قدّمت له الحل الأفضل لإنجاز روايته «دق الطبول». بالطبع، لا نتحدث هنا عن استيراد نبرات جاهزة، بل عن استثمارات شديدة الذكاء والخصوصية، إذْ يبرع صاحب «ليالٍ أخرى» في امتصاص هذه المؤثرات، ويحوِّلها إلى إنجاز خاص ممهور ببصمته الشخصية.