عن فضاء قلق ومقلق للراحة... اسمه السينماتوغرافالقاهرة ـــ محمد شعير
لم تهنأ السينما المصرية طويلاً بحرّيتها. عامان فقط بلا رقابة إذا تجاهلنا التجارب التجريبيّة الأولى للأخوين لوميير في الإسكندرية، واعتبرنا أنّ السينما المصرية بدأت فعلياً ـــ حسب بعض المؤرخين ـــ عام 1907 بفيلم قصير لزيارة الخديوي عباس حلمي الثاني لمسجد المرسي أبو العباس في الإسكندرية. أما إذا اعتبرنا أنّها بدأت على يد المخرج محمد بيومي عام 1923 فتكون الرقابة قد بدأت قبل السينما بسنوات!
قبل 100عام، تحديداً في آذار (مارس) 1909، قررت الحكومة المصرية اعتبار السينماتوغراف من «المحالّ القلقة والمقلقة للراحة» وهو التوقيت نفسه الذي صدر فيه قانون «التياترات» وأُقرّ قانون «المطبوعات» الذي أطبقت عبره الحكومة على كل وسائل التعبير: الصحافة والمسرح، والوسيلة الحديثة الناشئة: السينماتوغراف. كتاب «100 عام من الرقابة على السينما المصرية» (المجلس الأعلى للثقافة) للباحث محمود علي، يغوص في كواليس هذا الجهاز وأزماته مع مبدعي السينما المصريين. يصحّح الكثير من الوقائع ويفتح الملفات، كاشفاً أنّ معظمها أُتلفَ في السنوات الأولى من تأسيس الجهازبدأت الرقابة تحت إشراف وزارة الداخلية. في 1928، تمّ توحيد الرقابة على الروايات التمثيلية وأسطوانات الفوتوغراف والأشرطة السينمائية في إدارة واحدة. وحين أنشئت وزارة الشؤون الاجتماعية عام 1938، أخذت بعض المهمات، إلا أنّ وزارة الداخلية رفضت أن يكون لجهة أخرى دور في فرض القيم على المجتمع سواها، وبدأ صراع بين الوزارتين. مع بداية الحرب العالمية الثانية وإعلان الأحكام العرفية، أنشأت الداخلية ما سمّي «مكتب حماية الآداب العامة» يشمل مراقبة السينما والمسرح، البارات ونوادي الرقص، ليعود ملف الرقابة مرة أخرى إلى «الداخلية». في تلك الفترة أيضاً، ظهرت «جماعات الضغط» وشنّت بعض الصحف حملة ضد أفلام «المجون والخلاعة» وأنشئت لجنة لذلك، ودعت «جمعية نهضة السيدات» إلى تأليف لجنة لمنع النساء من دخول هذه الأماكن، دعمها شيخ الأزهر والمفتي وبطريرك الأقباط.
وكان نتيجة ذلك تعرض عشرات الأفلام للرفض أو المنع الجزئي، منها «الكنز المفقود» عام 1938، من إخراج إبراهيم لاما. وكان أبرز الأفلام المرفوضة «ابن النيل» (1951) ليوسف شاهين الذي اعترض فيه الرقيب على جملة «ماله الحشيش ملا جيبك فلوس» وعلى مشاهد «الأطفال مهلهلي الثياب، وهم يصفقون للقمر، رئيس العصابة وهو يعتدي على رئيس الشرطة». ولم تكن هذه المرة الأخيرة التي يصطدم فيها شاهين بالرقابة، وهذا ما يرصده الكتاب.
حين قامت ثورة يوليو (1952)، أنشئت وزارة الإرشاد القومي (تحولت لاحقاً إلى وزارة الثقافة) لتبدأ صفحات جديدة من تاريخ الرقابة. هكذا، بدأت الثورة في تحديد «ما الذي تريده من الفن في العهد الجديد» والتحدث عن «الرسالة الأخلاقية للفن». من هنا، أُلغيت أفلام تم البدء في تصويرها ومنع عرض أخرى كانت وافقت عليها رقابة ما قبل الثورة، ما أحدث ضجةً كبرى حتى إنّ الفنان الكبير يوسف وهبي اعترض في لقاء مع أحد ضباط الثورة بأنّ «الحركة المباركة كانت لإقرار الحريات، فكيف يجيء الرقيب ويقول لي هذه القصة جيدة أو تافهة؟ هذا وضع لا يمكن أن تقرّه الثورة لأنّه يتنافى مع أهدافها». لم يحدث صدام قويّ بين الثورة والسينمائيين الذين انخرطوا دفاعاً عن مبادئ الثورة، وكان الصدام الأول بطله يوسف شاهين بفيلمه «باب الحديد» بعد موافقة الرقابة على القصة. في تلك الفترة، أرسلت الداخلية خطاباً إلى الرقيب الكاتب المسرحي نعمان عاشور ينهى عن التصريح بأفلام تعالج القضايا العمّالية، وخاصة بعد ثورة عمّال مدينة كفر الدوار وإعدام اثنين منهم. ذهب عاشور إلى رئيسه الكاتب يحيى حقي الذي قرر قراءة السيناريو مرة أخرى. وبعد أسبوعين، علم شاهين بما جرى، فأخبروه بأنّ هناك اعتراضاً على الفيلم، فغضب وهدّد برفع دعوى قضائية، وخاصة أنّه يعرف أنّ الموافقة على الفيلم قد تمت من قبل. وكان الحلّ بأن حضر ضابط من الداخلية طوال تصوير الفيلم لمراقبة السيناريو. ولم يعترض الضابط سوى على ضرورة تكوين «نقابة للشيالين العاملين في محطة مصر لحمايتهم من استغلال البلطجية». لكنّ الرقابة أقنعت الضابط بأنّ الثورة تنادي بشرعية تكوين النقابات! أما فيلم «شيء من الخوف» الذي تدخّل الرئيس عبد الناصر للسماح به، فتم الاعتراض فيه على مشهدي تدخين الشيشة، وجملة «من النهار دة نلمّ الناس، ونقعد معاهم في المصاطب، في الغيط، في الجوامع...». أما الربط بين البطل عتريس والرئيس عبد الناصر، فلم يكن في ذهن الرقابة.
يستمرّ الكتاب في عرض أشهر أزمات الرقابة والسينما، منها «العصفور» و«المهاجر» لشاهين، «المذنبون» (لأول مرة يُحاكم موظفو الرقابة لموافقتهم على فيلم ينطوي على تشويه للمجتمع المصري)، «الأفوكاتو»، «زوار الفجر» (أدى منعه إلى رحيل مخرجه ممدوح شكري)، «بحب السيما» لهاني فوزي وعشرات الأفلام الأخرى.