من المعلّم الإيراني عبّاس كياروستامي ومواطنه باهمان معتمديان إلى الجزائري طارق تيغيا، مروراً بالإيطالي ماركو بونتيكورفو، نجل السينمائي الكبير جيلو بونتيكورفو، صاحب رائعة «معركة الجزائر».... تحتلّ أربع قصص ملحمية عربية وفارسية واجهة الـ «موسترا» هذه السنة
عثمان تزغارت
بعيداً من حمى التسابق على «الأسد الذهبي»، قدّم عبّاس كياروستامي عمله الجديد «شيرين» (خارج المسابقة) الذي مثّل إحدى المحطات الرئيسة لهذه الدورة من «مهرجان البندقية». يروي الفيلم قصة من التراث الفارسي القديم خلّدها الشاعر الكبير نظام الدين النظامي (نظام الدين أبو محمد إلياس بن يوسف بن زكي بن مؤيد النظامي). وتتناول بقصة حب وزواج تراجيدية جمعت الملك الساساني كسرى الثاني بأميرة مسيحية تدعى شيرين. ويقع الابن الأكبر لكسرى الثاني من زوجته الأولى في غرام شيرين، فيقتل والده أملاً بأن يرث عنه، لقب «كسرى الثالث» وزوجته.
انطلق كياروستامي من هذه القصة التراثية ليقدّم عملاً أبعد ما يكون عن الكلاسيكية وأبهر الـ «موسترا» عبر لعبة مرايا متقنة جعلته ينقل شخوص الفيلم ــــ منهم بطلته الرئيسة جولييت بينوش ــــ من الشاشة إلى داخل قاعة العرض. إذ صوّر قصة شيرين الملحمية بشكل كلاسيكي، ثم وضع ممثّليه محل الجمهور داخل قاعة العرض، ليتابعوا القصة على الشاشة، كي يكتشف الجمهور الفعلي قصة الفيلم عبر تفاعل هؤلاء الممثلين ــــ المشاهدين مع العرض الذي يتابعونه!
ومن إيران أيضاً، جاءت مفاجأة أخرى تتمثل في فيلم أُلحق بالتشكيلة الرسمية في آخر لحظة، تحت مسمّى «العرض ـــ المفاجأة» وهو فيلم «خاشتجي» لباهمان معتمديان الذي يصوّر عوالم فئة اجتماعية من نوع خاص في إيران، تتمثل في «المتحوّلين جنسياً». وكالعادة في السينما الإيرانية، محا معتمديان المسافات بين التوثيق والتخييل، إذ تعاون في كتابة السيناريو مع طبيب متخصّص هو برهان صديقي، لمقاربة أكثر موضوعية لمعاناة هذه الفئة في مجتمع محافظ مثل المجتمع الإيراني، وفي ظل نظام يفاخر رئيسه بأنّ المثلية الجنسية «لوثة غربية» لا وجود لها في المجتمع الإيراني «الطاهر».
الجزائري طارق تيغيا دخل السباق على «الأسد الذهبي» بفيلم «قَبْلة» Gabbla، ومعناها في اللهجة الجزائري «الوطن القَبْلي» (أي عكس البحري). يروي الفيلم قصة المهندس المعماري مالك (الممثل عبد القادر عافاك) وزميله لخضر (أحمد بن عيسى)، اللذين يكلّفان عمليات مسح طوبوغرافي في منطقة ريفية في الغرب الجزائري لمدّها بالكهرباء، تمهيداً لإعادة تأهيلها عمرانياً، بعدما نزح سكانها إلى وهران، إثر تعرضها لمجازر دامية على أيدى الجماعات الإسلامية المسلحة في التسعينيات. وذات ليلة يستيقظ المهندسان على أصوات الرصاص، ليكتشفا أنّ مجزرة من نوع جديد ارتُكبت في المنطقة، ثم يعثران على ناجية وحيدة (الممثلة إيناس روز جاكو) يعرفان منها أنّ ضحايا المجزرة الجديدة لاجئون من أفريقيا السوداء تسلّلوا إلى المنطقة، تمهيداً للهجرة السرّية إلى أوروبا.
قصة جزائرية أخرى يتناولها Parada (خارج المسابقة)، وهو باكورة مخرج إيطالي ناشئ هو ماركو بونتيكورفو الذي بدأ مدير تصوير تحت إدارة والده السينمائي الكبير جيلو بونتيكورفو، صاحب رائعة «معركة الجزائر». ورغم أن ماركو يقول إنّه لم يرث عن والده سوى «الدقة في استعمال العدسة لالتقاط أبسط تفاصيل الحياة». إلا أنّه يسير على خطاه في ما يتعلق باستلهام أحداث فيلمه من قصة واقعية جزائرية بالغة التأثير. فالفيلم يروي سيرة مغامر جزائري شهير يدعى ميلود وكيلي (مواليد 1972)، كان مولعاً بفنون السيرك. ما زج به في رحلة طويلة إلى موسكو، أملاً بالالتحاق بمدرسة سيرك شهيرة هناك. لكنّ وصوله إلى بوخارست تزامن مع سقوط نظام تشاوسيسكو، فيستقرّ في رومانيا. لكن قراره لم يكن مندرجاً ضمن التفاؤل بالديموقراطية الناشئة، بل بدافع العناية بمجموعة أطفال شوارع ارتبط معهم بأواصر قوية، وأخرجهم من براثن الانحراف وعلّمهم فنون السيرك. ثم وسّع تلك التجربة، لتشمل 900 طفل، ما جعل البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، والأباتي بيار في فرنسا يخصّانه بلفتات تكريمية، فزارا مدرسة السيرك التي يديرها في رومانيا.