ألف ليلة وليلة» ألهبت المخيّلة الغربيّة، ومثّلت مصدر إلهام لأعمال أوبرالية، أو أوحت بمقطوعات موسيقية تصويرية: «شهرزاد» المؤلف الروسي نيكولاي ريمسكي ــــ كورساكوف (1844 ــ 1908)، ما زالت تتصدّر تلك الأعمال بلا منازع
بشير صفير
منذ القرون الوسطى حتّى اليوم، مثّل الدين أحد أبرز مصادر الوحي في التأليف الموسيقي الكلاسيكي... ولو أنّ حضوره بدأ بالانحسار التدريجي مطلع القرن الثامن عشر، وذلك لأسباب عدة أهمها انتشار الأفكار الفلسفية والاجتماعية التي خلقت وعياً عند الأوروبيين حدَّ من سلطة الكنيسة التي كانت مطلقةً لقرون. في أوروبا المسيحية التي يُردُّ إليها كل النتاج الموسيقي الكلاسيكي (باستثناء القرن العشرين)، كان للدين المسيحي تأثيره الطبيعي على المؤلفين الموسيقيين الذين كتبوا روائع إنشادية في قوالب مختلفة (قداس، أوراتوريو، موتيه، كانتات،...). في هذا السياق يمكن اختصار كل هذه الحالة من التداخل و«التعاون» بين الموسيقى والمسيحية بثلاثة أحرف: باخ.
من جهة ثانية، وبما أنّ المبدع لا ينفكّ يبحث عن مصادر وحي جديدة، بدأت تظهر منذ العصر الكلاسيكي (منتصف القرن الثامن عشر) بوادر علاقة بين الموسيقى وتاريخ العرب والإسلام. صحيح أنّ احتكاك العرب العسكري بالغرب بدأ بفتح الأندلس، لكنّ تأثير الإسلام على المجتمع الأوروبي لم يأتِ من الأندلس بل من امتداد سلطة الإمبراطورية العثمانية في التاريخ والجغرافيا على حدٍّ سواء. ولحضور الإسلام في الفنون الغربية سببٌ أساسي آخر يتمثّل في الأعمال الأدبية والدراسات التي كتبها مستشرقون أعجبوا بسحر الشرق ديناً ودنيا.
هكذا أدّى الأديب الألماني الكبير غوته (وغيره من الأوروبيين) دوراً استثنائياً في تعريف المجتمع الغربي بالدين الإسلامي وتاريخ العرب فتأثر الكثير من موسيقيي الحقبة الرومنطيقية بالإسلام من خلال كتابات غوته، وأهمها «الديوان». وفي السياق الأدبي أيضاً، أسهمت قصص «ألف ليلة وليلة» في خلق مادة روائية دسمة انعكست مباشرةً على نصوص أعمال أوبرالية عدة أو أوحت بمقطوعات موسيقية تصويرية. لهذه الأسباب نجد أن الأعمال الأوبرالية عالجت قصصاً تدور أحداثها إما في بغداد أو في تركيا (أو في ظل حكمها).
عملياً لا يمكن تعداد كل الأعمال الموسيقية الكلاسيكية التي تندرج في هذا الإطار، لكن يمكن اختصار اللائحة الطويلة بأبرز المحطات. وفق التأريخ الموسيقي، يمكن اعتبار أول عمل موسيقي عربي النزعة ولد في الغرب الكلاسيكي هو أوبرا «القاضي المخدوع» (عام 1761، ونصها مستوحى من «ألف ليلة وليلة») للنمساوي غلوك (1714 ــــ 1787). وضع غلوك عملاً أوبرالياً آخر من وحي الإسلام بعنوان «اللقاء غير المتوقع أو حجاج مكة» (1764)، وهو عنوان عمل مماثل للنمساوي هايدن (1732 ــــ 1809) يعود إلى 1775.
من الحقبة الكلاسيكية، يعدّ موزار (1756 ــــ 1791) من أبرز الذين أوحى لهم الشرق بمؤلفات موسيقية. لكن تأثُّر موزار أتى من تركيا دون سواها، فترجمه عملاً أوبرالياً شهيراً بعنوان «الخطف في السراي» وآخر غير معروف (وغير مكتمِل) بعنوان «زاييد». كما صوّر موزار بعيداً من النص المباشر، بالموسيقى فقط، هذه العلاقة مع تركيا في الحركة الثالثة (المشية التركية) من سوناتة البيانو ك.331، وكذلك في الحركة الثالثة من كونشرتو الفيولون رقم 5 وغيرها من الأعمال. أما بيتهوفن (1770 ــــ 1827) فقد كانت له تجربة مختصرة وناجحة، وذلك في الموسيقى التي كتبها لمسرحية بعنوان «تكريس البيت» (تدور أحداثها في اليونان أثناء الاحتلال التركي) وفيها نص يمدح النبي محمد والكعبة و«مشية الدراويش»... في الحقبة الرومنطيقية أيضاً، لحّن النمساوي شوبرت (1797 ــــ 1828) أكثر من عمل ذي إيحاء إسلامي مباشر، أبرزها قصيدة غنائية بعنوان «النبي محمد». وتتالت الروائع الموسيقية التي وثّقت الإيحاء الإسلامي والعربي بالموسيقى الكلاسيكية من روسيني إلى شومان وبالاكيريف وبيزيه... لكن، بالنسبة إلى الشرقيين، تبقى مجموعة القصائد السيمفونية «شهرزاد» (1888) للمؤلف الروسي نيقولاي ريمسكي ـ كورساكوف (1844ـ 1908)، رمز هذا الأثر بلا منازع.