«غير مخصص للجمهور العريض» في «مسرح المدينة»بيار أبي صعب
ليست النزعة الاستفزازيّة، على المستويين الفكري والجمالي، ما ينقص هشام جابر، ولا المقدرة على الخلق والابتكار، ولا النظرة النقديّة الساخرة، ذات الخلفيّة السياسيّة الواضحة، إلى أنماط التفكير والسلوك الثقافي والمعايير الذوقيّة والأخلاقيّة التي تتحكّم بالمجتمع. وكل ذلك أساسي في تكوّن مشروع مسرحي على درجة من الخصوصيّة والغرابة. مشروع فنّان لبناني شاب (1980)، اقتحم الخشبة ذات يوم من عام ٢٠٠٢ بعمل عنوانه «كولا ـــــ بربير ـــــ متحف ـــــ دورة»، وسرعان ما ترك بصماته (ممثلاً ومخرجاً وكاتباً) على المشهد الثقافي لمدينة تبحث عن نفسها، وتواجه أسئلة جيل جديد يحرّك مبضعه في الجراح الجماعيّة.
لكن عمله الجديد، المركّب، يترك لدى المشاهد إحساساً بالحيرة، بالضياع. بلقاء لم يكتمل ربّما، أو لعبة لم تذهب إلى آخرها. قد يكون من الصعب الجزم بكلّ ذلك، فهذه المقالة تُكتب بعد الحلقة الأولى من المشروع، وستصل إلى يدي القارئ صباح الحلقة الثالثة والأخيرة. لنوضح أكثر: «غير مخصص للجمهور العريض» أكثر من مسرحيّة، إنّه «مسلسل مسرحي» (نعم! كما نقول: مسلسل تلفزيوني)، من ثلاث حلقات، تتوزّع على ثلاث أمسيات متتالية، تقدّم مبدئيّاً للجمهور نفسه الذي يفترض به ـــــ حسب التصوّر الإخراجي ــــ أن يكون شريكاً كاملاً، وأن يحدّد بنفسه تطوّر مجرى العرض عبر «الاقتراع». والعمل أساساً قائم على «معارضة» التلفزيون، من خلال استيحاء برامج «تلفزيون الواقع» إطاراً وموضوعاً، والانطلاق منها لتعرية تلك الآلة الضخمة التي تستلب العقول، وتستغلّ الأفراد، وتسطّح القضايا، وتقلب المُشاهد متلصّصاً... وتزيّف الواقعحين ندخل، يكون ذلك الصوت الأجوف والقامع الذي يريد نفسه جذّاباً وساحراً ومقنعاً ومسلّياًً، قد سبقنا إلى الصالة. «أهلاً بكم إلى عالم الواقع، welcome to reality show»... هذا الـ «بيغ برازر» (وسام دالاتي) الذي يحرّك الخيوط من مكان خفيّ، لا نرى إلا بعضاً من صورته/ طيفه على الشاشة التي تتوسّط الخشبة. من خلال كاميرا فيديو: نرى أسفل ذقنه، وحنجرته، وأعلى صدره بالتيشرت الأبيض، ونسمعه يشرح قواعد اللعبة (بالعاميّة المصريّة أحياناً)، يطارد المتبارزَيْن (ضحكينا، بكينا، خلينا نشعر بالفخر، إلخ) في هذه المسابقة الجهنّميّة التي يفوز فيها الرابح (الليلة إذاً) بـ «5000 يورو»، أما الخاسر فيكون من نصيبه «حكم الإعدام».
لنقل إنها مسابقة في التمثيل، يتبارى خلالها كلّ من رانيا (رانيا الرافعي جابر، لافتة) وروبرتو (هشام جابر، ماهر كعادته) حتى الرمق الأخير، تحت عيني الرقيب الخفي، كل ليلة حسب موضوع محدّد: «الاغتصاب»، ثم «الإجهاض»، وبعدهما «أميركا»... أنت مع الممثّل أو مع الممثّلة؟ مع أميركا أو ضدّها؟ سيكون عليك أن تلعب. «هذا ليس عرضاً لعامة الشعب، للبسطاء، الفقراء، الضعفاء السخيفين...»، يعلن «الصوت» برتابة يجعلها الصدى معدنيّة وطاغية (صمّم الصوت طارق عطوي). هذا «الأخ الأكبر» إذا جازت الاستعارة من جورج أورويل، نصّب الجمهور في موقع الحكم. على كل متفرّجة ومتفرّج أن يكتبا خياريهما واسميهما على قطعة نقود حقيقيّة من فئة الألف ليرة لبنانيّة (أو العشرة آلاف)، ويضعاها في الرأس المقطوع الذي يؤدي وظيفة الصندوق، حين يمر الممثل أو الممثلة بين الجمهور، خلال دقائق الاقتراع الثلاث التي تضاء خلالها الصالة.
هذا هو العرض. الباقي اسكتشات وقفشات ولطشات ومشاهد، بعضها قويّ (مشهد الاغتصاب)، بعضها مضحك (المبارزة حول فيروز)، وبعضها صادم بالمعنى الإيجابي للكلمة (الممثلة تؤدي النشيد الوطني ممسكة بحذاءيها، متراقصة بهما). هناك أحياناً إسراف في مخاطبة الصالة واللجوء إلى التغريب، بشكل يضعف اللعبة المسرحيّة من دون أن يعبّئ المشاهدين. الفجاجة التي تمثّل عنصراً أساسيّاً لدى هشام جابر، تعود هنا في أحاديث الجنس، وسائر المفردات والإيماءت (الممثل يستفرغ أمام الكاميرا، أو يقول كلاماً نابياً)، لكن من دون الشحنة الشعريّة القويّة التي اعتدناها في نصوص هذا المسرحي الموهوب مع «سولو» (٢٠٠٣) و«خبز عربي» و«قصّة موت نجيب براكس» (٢٠٠٥).
ماذا يريد هشام جابر من الجمهور عبر هذه البنية التفاعليّة التي يقترحها؟ المتفرّج يتدخّل في مسرح البرازيلي أوغوستو بوال مثلاً، كي يوقف المشهد ويعيد ارتجاله رافعاً الغبن عن «المقموع». هناك مثال آخر تمكن استعادته هنا، هو استعراضات الفرنسي روبير حسين الكبرى، حيث يترك للجمهور أن يقرر مصير بطله (شخصيّة تاريخيّة غالباً) من خلال اقتراع حقيقي وآليّة واضحة. أما مخرج «غير مخصص للجمهور العريض»، فيكاد «يستعمل» الجمهور في بنيته المشهديّة، تقريباً كما تفعل برامج «تلفزيون الواقع» التي يسخر منها.
المواضيع التي يتناولها هذا «المسلسل المسرحي» لا تفتقر إلى الخصوبة، مثلاً: ضحايا الاغتصاب في مجتمع ذكوري استهلاكي أبوي ومكبوت. لكن العرض لا يحاصر المتفرّج كما ينبغي، لا ينتهره أو يخاطب وعيه، بل يضيعه في هذه الأجواء الترفيهيّة، بين تعدد التقنيات البصريّة (إضاءة: سامر يحيى، إدارة تقنيّة: آفاك آفاكيان) والأداء القوي للممثلين، والخطاب الذي يفتقر إلى التماسك والوضوح. هل نصدّق حادثة الاغتصاب؟ هل نشكك فيها؟ تلك هي المسألة. «كل قصّة يمكن أن تكون صحيحة ــــ يقول لنا الصوت ــــ شرط أن تجد على الأقلّ شخصاً يصدّقها»!


«غير مخصص للجمهور العريض»:
الليلة عند التاسعة، ثم الأسبوع المقبل ١١، ١٢،١٣ أيلول/ سبتمبر، «مسرح المدينة» ــــــ بيروت 753011/01
www.notforpublic.com



السينوغرافيا والتقنيّات جزءاً من الخطاب المشهديأمام شاشة اليمين سجادة كهربائيّة (آلة نجدها في النوادي الرياضيّة للتمرّن على المشي أو الجري). على الشاشة الوسطى تعرض لقطات الفيديو، إضافة إلى الصور والرسوم المختلفة والألعاب الغرافيكيّة والتحريك (وسيم معوّض)، أو تأتينا الإضاءة الزرقاء والحمراء من خلفها في اللحظات التراجيديّة. أمام شاشة اليسار هناك المنبر الأحمر الذي يستحيل عرشاً ميكانيكياً. وإلى أقصى اليسار لوح أبيض كبير عليه ثلاث شخصيّات مرسومة في قالب كاريكاتوري، سيستر الممثلان عوراتها في مشهد «السوبر سماش» لـ«مكافحة العنصريّة ضدّ المرأة» الذي يشبه فاصلاً إعلانيّاً.
مواجهة أفقيّة خطيّة بين الخشبة والصالة إذاً، تكثر فيها التقنيّات ــــ الفيديو خصوصاً، إذ وصلت الكاميرا المنمنمة إلى يد كل ممثل، حيث زرعت في إحدى الكفين، لتنقل لنا صورة الوجه في لقطة مقربة. وأحياناً تنقسم الشاشة إلى نصفين فيتجاور الوجهان المتبارزان. كل ممثّل «يلعب» مع كاميرته التي تصبح جزءاً من مقدراته الأدائيّة. هذا الاستعمال التجريبي للفضاء وأدوات التعبير، يحاول خلق حالة تغريب مشوّقة ومتقنة، لولا أن القالب الدرامي يبدو أقل دسامة وديناميّة وكثافة مما قد يبرّر وجود تلك الابتكارت التقنيّة الكثيرة.