دمشق عاصمة الثقافة تحتفي بالفنانة الموريتانيّة

صاحبة الصوت الجميل والأغاني الملتزمة رمز موسيقي ونضالي في بلدها. رغم الحصار الإعلامي ومضايقات السلطة، وجدت طريقها إلى قلوب الموريتانيّين. لكن إلياس الرحباني أقفل بوجهها أبواب «روتانا»... لأنّها أميركيّة! السبت في «قصر العظم» الدمشقي

بشير صفير
شهراً بعد شهر، تتوالى الأنشطة ضمن فعّاليّات «دمشق عاصمة الثقافية العربية 2008» ومعها المواعيد الموسيقية المتنوعة: حصّة هذا الشهر تبدو عربية بامتياز، ولو بنكهات مختلفة. بعد «أيام الموسيقى الروحية» التي لم تقتصر على الإنشاد الديني والصوفي فحسب، بل تجاوزته إلى الموسيقى التراثية الشرقية، بمشاركة فنانين من سوريا ومصر والمغرب، يتجدد الموعد السبت المقبل مع الفنانة الموريتانية، وأوّل امرأة تدخل مجلس الشيوخ في بلادها... المعلومة بنت الميداح.
استضافة المعلومة في دمشق حدث بارز، إذ إنّها رمز موسيقي في بلدها، وهي أيضاً رمز نسائي بارز في النضال الاجتماعي والسياسي موريتانياً، كما أنّها الحفلة الأولى لهذه الفنانة في المنطقة، حيث ستعرّف الجمهور إلى نتاج موسيقي لبلد عربي لا نعرف عنه الكثير مقارنةً بدول المغرب العربي وسائر الأقطار العربيّة.
ولدت المعلومة بنت الميداح في كنف عائلة تتمتّع بإلمام قديم بالموسيقى، لجهة والدها كما والدتها. احتكاكها الأول كان مع الموسيقى الشعبية الموريتانية وتأثراتها الأفرو ــــ مغاربية. وتعود بداية مسيرتها الفنية إلى أواسط الثمانينيات، يوم بدأت أغنياتها بالانتشار، ملتزمة قضايا الناس وحقوق المرأة. صحيح أن الفنّانة الموريتانيّة صاحبة الصوت الجميل، لم تكن تعاني في صغرها الطبقيّة والعبوديّة على أشكالها، إذ كان منزل العائلة يقع في منطقة مسكونة من غالبية ميسورة. إلا أن حِسّها اليساري وشعورها بمعاناة الكادحين والمحرومين في بلدها «ورثتهما» عن أخيها الأكبر الذي كان ناشطاً إلى جانب كادحي المدردرة، الضيعة التي كانت موئلاً للحركات الاحتجاجية ضدّ التمييز العنصري والطبقي. عهد إليها المناضلون اليساريّون توزيع مناشير كانت تُقرأ من عنوانها: «صيحة المظلوم». هكذا نشأ عند بنت الميداح وعيٌ سياسي لطبيعة مجتمع يمزّقه الفقر والعبودية، فقامت بأولى خطواتها الثوريّة حين أقنعت أمها بوجوب تحرير «العبيد» الذين كان يستخدمهم أهلها. ثم راحت تشارك في التظاهرات الاحتجاجية إلى جانب القوى المعارِضة في عهد معاوية ولد طايع. وقد دعمت الزعيم الأبرز في المعارضة الموريتانية أحمد ولد داداه، من خلال المشاركة في مهرجاناته الانتخابية التي لم تأتِ به رئيساً، لكنّها أسهمت في خلع معاوية. إلى تلك الفترة تعود إحدى أشهر أغانيها الملتزمة «حبيب الشعب» التي جعلت من صاحبتها فنانة الشعب بامتياز... وانتشرت أغنياتها على نطاق واسع، على رغم الحصار الإعلامي الرسمي، إذ جهدت السلطة لمنعها من الوصول إلى الجمهور، ومنعتها من إقامة الحفلات، أو اشترطت عليها التصريح بالبرنامج لشطب هذه الأغنية أو تلك.
الا أنّ لقبها هذا لا ينسحب على موسيقاها التي ـــ وإن اتّخذت من الشعبي أساساً (الأفريقي تحديداً) ـــ فإنّها لم تتقيّّد بالتقاليد الفنّية المحلية، بل تطوّرت في قوالب جديدة، منها غربية كلاسيكية، ومنها ما راح يحاكي الحداثة بشقّها الإلكتروني. عملت المعلومة بنت الميداح على عَصرَنَة الشعبي الموريتاني ـــ عبر المزج كما يحصل مع تجارب معظم الفنانين في ثقافات أخرى ــــ وسعت إلى توظيف اطّلاعها على عناصر موسيقى البلوز (غير البعيدة أصلاً عن النَفس الأفريقي لناحية خماسية نغمتها)، والجاز والروك وغيرها في الموروث الموسيقي الأصلي، لتعود وتقدمه منتَجاً عالميّ اللغة، موريتاني المنشأ (والهوية).
إنّه الاتجاه الصحيح وغير المدّعي في التطوير غير الاستغلالي لكل فنٍّ شعبي: اتجاه ضلّه كثيرون من الفنانين العرب، ممن باتوا من أصحاب المقامات الرفيعة في الوسطين الجماهيري والإنتاجي في الغرب. لهذا السبب، عانت المعلومة كثيراً قبل أن تتمكّن من إيصال صوتها في وطنها... إذ حوربَت من حماة التراث المتزمتين، وكذلك من أقرب الناس إليها في العالم العربي، علماً أنها غنّت معاناتهم. بل إن انسداد الأفق أمامها، دفعها ذات يوم إلى طرْق باب «روتانا» التي رفضت بلسان مستشارها الفني إلياس الرحباني، إنتاج أغانيها «لأنّها أميركية»! بمعنى أنّها تنتمي إلى موسيقى البلوز التي لا تستهوي الجمهور العربي (أو جمهور «روتانا»؟). لكنّ الرحباني عرض عليها عملاً من ألحانه، فرفضته لأنّه يلغي الخصوصية الموريتانية التي تريد إيصالها إلى الجمهور العربي، كما صرّحت في حوار أجراه معها الزميل سامي كليب على قناة «الجزيرة». في هذه المقابلة، قالت أيضاً إنّ السيدة فيروز اتصلت بها إلى الفندق لتهنئتها بُعيد إحدى اطلالاتها. هذه الحادثة التي يعرف كلّنا فرادتها، ستصبح لاحقاً حافزاً أساسياً في استمرارية الفنانة الموريتانية، فهي كلّما خطرت في بالها فكرة التخلي عن مشروعها الموسيقي تقول: «لا، فيروز اتصلت بي يوماً وقالت إني أتمتّع بميزة يندر وجودها اليوم عند أي فنّان: الصدق».


المعلومة بنت الميداح: 10:00 مساء السبت 13 أيلول (سبتمبر) الحالي ــــ قصر العظم، دمشق ـــــ للاستعلام: +963113317226
http://www.damascus.org.sy



متى تصلنا الموسيقى الأفريقيّة؟



من المؤكد أن مَن يهتم بموسيقى الشعوب أو بالموسيقى العربية، يعرف بأقلّ تقدير اسماً أو أكثر من الفنانين العرب (المشرقيين أو المغاربيين). لكن نلاحظ أنّ الأسماء الموريتانية ــــ شعبيةً كانت أم معاصِرةً ـــ هي الأقل انتشاراً في العالم العربي غير الأفريقي.
ولا شك في أنّ البعد الجغرافي، معطوفاً على الإنتاج الفني وتوزيعه، يكمن بالدرجة الأولى وراء هذه الظاهرة التي تُبقي الأسماء الموريتانية مغمورةً في الوطن الذي تنتمي إليه.
لكن، من جهة ثانية، تضاف إلى هذا السبب مسألة الموقع الجغرافي الذي يجعل من موريتانيا بلداً عربياً ذا اتصال بالثقافات الأفريقية والبربرية، وهي غير منتشرة في الشرق الأوسط، بخلاف البلدان الأفريقية العربية الأخرى (وأولها مصر بطبيعة الحال).
وهنا تمكن أيضاً الإشارة إلى الدور السلبي الذي تؤدّيه ليبيا التي لم تؤمّن امتداد الموسيقى العربية الشرقية عبر أداء دور الجسر بين التراث الموسيقي الشرقي (الذي تمثّله مصر في أفريقيا)، وبلدان المغرب العربي. والنتيجة يمكن ملاحظتها في الشرخ النسبي بين الهوية الشرقية للموسيقى المصرية والهوية الأفريقية/ الأوروبية/ الشرقية لموسيقى البلدان التي تفصلها ليبيا عن الشرق.
لهذه الأسباب، نرى أن الموسيقى الموريتانية الإثنية (بتشعّباتها البنيوية وأشهرها البيظة أي البيضاء، والكحلى أي السوداء والكنَيدية أي مزيج الإثنتين)، ولو أنها منحدرة في الأساس من أصول أندلسية عربية، لا تتصل بالموسيقى الشرقية بقدر ما تتصل بالموسيقى الأفريقية ومقاماتها وإيقاعاتها.
كما تتصل أيضاً بالوجه الأميركي لهذه الموسيقى، ونقصد موسيقى البلوز الحاضرة بقوة في ثقافة الموريتانيين الذين يرون فيها أغانيهم الشعبية لكن باللغة الإنكليزية.
إن مقامات الموسيقى الشرقية الرائجة في البقعة الجغرافية العربية الممتدة من مصر شرقاً، وخصوصاً تلك التي يدخل ربع الصوت في تركيبتها الأساسية، غير مستعملة في صلب البنية اللحنية الموريتانية عموماً. والأمر كذلك في ما يخــــــص الآلات الموسيقية المستعملة في موريتانيا (ونقصد الآلات الشعبية)، حيث لا نجد مثلاً العود أو القانون أو الناي أو الطبلة وغيرها من آلات التخت الشرقي، بل آلات شعبية خاصة (معظمها لا يحمل تسميات عربية بل بربرية) كالتيدنيت والآردين (آلات وترية) والطبل الموريتاني والنفارة (آلة نفخ) وغيرها.
في موريتانيا اليوم تجارب شبابية كثيرة (موسيقى الراب خصوصاً) ابتعدت عن الموروث الشعبي، وهي للأسف قابلة للانتشار أكثر من محاولات تطوير التراث وأكثر بكثير من التراث الكلاسيكي بحد ذاته.