ذات يوم، نسي صباح فخري (1933) الزمن، فتخطت ساعات طربه الليل وواصل الغناء حتى النهار. حينها، تسيّد الطرب الخالص المشهد، ودخل «بافاروتي حلب» موسوعة «غينيس» من أوسع أبوابها بعدما وقف على مسرح «كاركاس» في فنزويلا، حوالي 12 ساعة متواصلة. لكن هل صار ذلك مجرد ذكرى من ذكريات الماضي بعدما استبد المرض بصاحب «خمرة الحب اسقنيها» وثقل لسانه ولم يعد بصمود قلعة حلب؟ ربما يبدو ذلك منطقياً طالما أنّ «عاصمة الشمال» ليست بخير، فكيف تكون قامتها الطربية الشامخة كذلك؟ أمس، تناقل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطعاً صغيراً لصباح فخري وهو يغني إلى جانب ابنه أنس أبو قوس. لكنّ الرجل لم يكن بأحسن أحواله.
فقد بدت علائم المرض على وجهه. كذلك تفوق ثقل لسانه على صوته الأيقوني، ولم يتمكن من الحركة بدون مساعدة ابنه، هو الذي كان يلف المسرح بدوران صوفي، وحركات مدروسة تنسجم مع تلوينه بالإيقاعات والمقامات الموسيقية التي يجيدها بطريقة ساحرة. بدت الصورة المعروفة عن «قلعة حلب الثانية» مهزوزة، مما أثار موجة سخط واسعة وحملة انتقادات عنيفة بحق ابنه، على اعتبار أنه بحسب المنتقدين «يتسلق على اسم والده من دون الاكتراث بحالته المرضية ويحاول أن يوازي شهرته به من خلال هذه الطريقة البائسة». لكن في حديثه مع «الأخبار»، شكر المغني السوري الشاب أنس أبو قوس إتاحة الفرصة لسرد حقيقة القصة وقال: «المقطع جديد أثناء زيارة والدي لي منذ حوالي أسبوعين في المطعم الذي أغني فيه أسبوعياً في بيروت، ومحاولته مشاركتي وجدانياً بهذه الدقائق التي صوّرها الحضور ونشرها. وهنا يحق لي القول إنّه كل من عاصر صباح فخري، يعرف أنّ قراره من نفسه، وإذا كان وضعه الصحي قد تراجع، فهذا لا يعني أنّه خسر قدرته على التحليل المنطقي، أو تغيّر لناحية الحكم السليم. كذلك، هو يعرف أنني أبعد ما يكون عن فكرة استغلال اسم صباح فخري». أما الدليل على ذلك، فيوضح «أنني ضحّيت كثيراً كي لا أحسب على اسم والدي واخترت نمطاً غنائياً بعيداً عن نمطه مثل الأوبرا كلاسيك والروك. كذلك، لم أنتمِ إلى نقابة الفنانين طيلة فترة وجوده فيها كنقيب لفناني سوريا. وقد تركت عملي وحياتي طيلة فترة مرضه للتفرغ لهذا الموضوع مع والدتي، وهو واجبي ولا منة لي فيه على أحد. والحقيقة أن الأسطورة الحية تعيش مع جمهورها، وأنا أدرك حجم محبة الجمهور له. لكن لا يمكن لأحد أن يزاود عليّ لناحية محبتي لوالدي». ويعود أبو قوس إلى الماضي قائلاً «عندما كان والدي عضواً في مجلس الشعب، لم استغل منصبه ولم أركب سياراته كما يفعل أبناء المسؤولين عادة. كنت أتنقل في وسائل النقل العامة، فكيف لي أن استغل مرضه وقد حرصت على تحييده عن الظهور المتكرر على وسائل الإعلام كي لا تتم المتاجرة بحالته. كذلك نصحته بأن يبقى حيادياً بالنسبة إلى الوضع السياسي لأنه أيقونة وملك لجميع السوريين. وكما كان المشايخ يسمعونه، كذلك كان يفعل الشيوعيون والعلمانيون وغيرهم».
أخيراً يوضح أبو قوس أنه يشعر بالإزعاج لهذه التهم، موضحاً «لا ألوم من لا يعرفني لكنني أستغرب ممن يعرفون وضع والدي ولم يكلفوا نفسهم عناء اتصال واحد للاطمئنان عليه، وراحوا يشنون هذه الحملات لإكمال حالة البشاعة التي نعيشها. لذا صار من الواجب أن أكشف لهؤلاء بأن الإطلالات المكثفة والمدروسة لصباح فخري تأتي بناء على تعليمات فريق أطبائه الذي نصح بضرورة استمرار حياته على ما هي عليه والامتناع عن حرمانه المسرح الذي يغذي روحه». أما عن حقيقة وضعه الصحي، فيكشف: «تعرض لنقص تروية حاد عن القلب، فأصيب ببداية شلل نصفي. لكن المتابعة الدقيقة والعناية الفائقة ولطف الله جعلتنا نتجاوز الموضوع بأقل الخسائر الممكنة، وهو مستقر صحياً حالياً. والسبب الرئيسي لذلك بحسب الأطباء هو الكآبة التي نحاربها بإطلالته تلك، خصوصاً أنّه همس لي يوماً قائلاً: لن أموت إلا على المسرح وبدونه لا حياة لي». ربما يتقاطع حديث أنس أبو قوس مع تصريح والده لـ «الأخبار» قبل سنوات: «ليس بالضرورة أن يكون أنس خليفتي في الغناء، وأنا سعيد بأنّه اختار الموسيقى التي تستهويه، المهم أن يؤسّس خطّه الخاصّ».