حسين بن حمزة لا تأسر سوزان عليوان قصيدتها داخل القفص الضيق لهموم الأنثى. إنها تتحرك في فضاء آخر، موليةً ظهرها للتفجع العاطفي والمناجاة الوجدانية التقليدية. تجنُّب المونولوغ النسوي المائع هو إحدى الصفات الأساسية في تجربة هذه الشاعرة اللبنانية التي تواصل الكتابة بدأب لافت ومدهش. نكاد لا نصدق أن مجموعتها الجديدة «كل الطرق تؤدي إلى صلاح سالم» (إصدار خاص)، هي العاشرة. كأن دواوينها الصغيرة، تلك التي واظبت على إرسالها لنا بتفانٍ فريد، نبتت في غفلةٍ منا. إذ لا نعرف في حياتنا الشعرية شاعراً أو شاعرة مصنفة بين الشعراء الشباب تُصدر هذا العدد من الدواوين. كأنّ هذا الشعر نشأ بفضل الزهد والتربية الصامتة، مقارنة بالجلبة التي يثيرها الشعراء عادة في أي نشاط لهم. ما نحفظه لسوزان عليوان هو زهدها بالحياة الثقافية العامة وندرة ظهورها في مجتمعات الشعراء. لعل كل هذا يقف وراء تراكم تجربتها الشعرية بصمت وهدوء.
الواقع أن صفات الزهد والخفوت والصمت تتسرب إلى شعرها أيضاً. لا يعلو صوت القصيدة ولا صوت الشخص الذي يسكن فيها. كأنّ الشاعرة تكتب في فضاء مكتوم اختارته ذات يوم عنواناً لمجموعتها الثانية «مخبأ الملائكة» (1995). غياب التفجع العاطفي يُحيلنا إلى الرجل شبه الغائب في شعرها، أو الحاضر، لكن ممحوَّاً ومتخففاً من نفوذه التقليدي، ومما يجرّه هذا الحضور من عتاد بلاغي اهترأ من فرط الاستعمال. يحتاج القارئ إلى بعض الجهد كي ينتبه إلى آثار طفيفة قد يكون الرجل، أو الآخر عموماً، خلّفها في هذا الشعر. «كأنني قصيدة بخطِّ يدك»، تقول صاحبة «كائن اسمه الحب» بوضوح، ثم تدفن هذا الوضوح تحت سطح الجمل والاستعارات، فتكتب عن «ضحكاتنا التي لم تَدُمْ أطول من الثلج»، وعن «تلك السنوات السوداء/ سنونوات محبَّتنا». الوضوح ـــ على أي حال ـــ لا يعني الصخب والضوضاء. لا تزال النبرة منخفضة هنا، ولا يزال اللعب بالمعاني أكثر براءةً وطفوليةً مما يحدث عادةً في الكتابة. الصفة الأخيرة تقودنا إلى استنتاج أنّ سوزان عليوان تكتب وحدها. لا نجد أصواتاً مستعارة في صوتها. لا نجد تأثيرات مباشرة وقوية لشعراء آخرين. كأنّها تعلّمت الشعر وربّته في مخيلتها وممارساتها فقط. صحيح أنّ هذا الشعر احتكّ، بطريقة ما، مع ما يُكتب حوله، سواء من المجايلين أو سواهم، إلا أنّ ثمة روحاً عصامية تسري فيه. أغلب الظن أنّنا لا نعثر على صلات وأواصر قربى شعرية مع نصوص وتجارب أخرى، لأنّ هذا يحدث بشروط الشاعرة. التأثيرات الممكنة والمفترضة تذوب في نَفَسِها ونبرتها. لنقرأ صوراً مثل: «لأنني من دخان/ أُفْلِتُ كل خيط وأطير»، أو «كمصباحٍ وسط عاصفةٍ أعبرُ».
النبرة الشخصية لهذا الشعر تتفوّق على ما يتسرب إليه من الجوار. يصعب التفريق بين الشخصي والشعري في هذه النبرة. هذا لا يعني أنّ سوزان عليوان تكتب سيرة حقيقية أو شذرات منها. القصد أنّ كثافة الأسى ومفردات الشجن وطبقات الألم التي تتنزّه تحت عبارتها... كل ذلك يجعل الكتابة أشبه بمرثية من نوع خاص. مرثية لا تُحصى فيها مناقب الحياة بل خسائرها المتواصلة. حياةٌ يمكن أن تُختتم ــــ شعرياً ــــ بـجملة ساطعة كهذه: «رصاصة في رأسي/ يليها النومُ الناصع».