«رجل في العتمة» عن أميركا وبوش والحرب الآتية

رواياته تضجّ بشخصيّات وحيدة وحزينة ومجنونة، تحاكي الكون بغموضها. وفي عمله الجديد يطرق المجاز السياسي، للمرة الأولى. لن نشاهد هنا حرباً أميركية على العراق، ولا مشاهد من اعتدءات 11 أيلول، بل يذهب الكاتب أبعد من ذلك في مناخاته الخياليّة التي تحاكي الواقع. ولا يخلو الكتاب من الهجاء لجورج بوش وفوزه الانتخابي المزيّف

زياد عبدالله
لا تدخلوا عالم الروائي الأميركي بول أوستر (1947) من الباب، لا تستأذنوا، لا تستخدموا مفتاحاً أو ما شابه. ليس من الحكمة أن تفعلوا ذلك. قراءة رواياته عمليّة اقتحام، كسر وخلع، ومن ثم السطو على شخصيّات وحيدة وحزينة ومجنونة، قادرة على التورّط في كل شيء، من دون أن تملك أمام غموض هذا الكون، إلا محاكاته لتصير بشدّة غموضه وربما أكثر.
شخصيّة أوغست بريل هو آخر ما توصّل إليه أوستر في روايته الجديدة «رجل في العتمة» (Faber & Faber ـــ لندن). أوغست بريل بدوره سيخلق أوين بريك، وسيجد في الأرق ما يمحو اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) ويجعل الولايات الأميركية غير متحدة بل متصارعة بعد انتخابات 2000. إذ إنّ الحرب ستكون على أشدها بين «الفدراليين» بقيادة جورج بوش ضد 16 ولاية أعلنت انفصالها بعد فوزه المزيّف على آل غور. يبدأ أوستر من خطأ، من اتّصال ليلي لأحدهم يسأل عن وكالة تحرٍّ خاصة، والإجابة لمرتين هي النفي. يسأل نفسه: ماذا لو وافقتُ أن أكون تحرياً.
أوستر حقيقةً لم يفعل ذلك، ولم يتلقَّ اتصالاً ثالثاً، لكنّه ورّط كوين في«مدينة الزجاج» ـــ الرواية الأولى من «ثلاثية نيويورك» (1980) ـــ وجعله يتحوّل من كاتب ألغاز إلى تحرٍّ خاص. المتّصِل بكوين يسأله: هل هو التحري الخاصّ بول أوستر؟... ويخرج علينا السطر الأول «كان رقماً خاطئاً ما بدأ به، يرن الهاتف ثلاثاً في موهن الليل». الرواية الثانية من الثلاثية نفسها كانت بعنوان «أشباح». يرمي أوستر صنّارته ويأخذ بالقارئ بلا رحمة إلى شخصيّة من ألوان، ليأتي في ثالث الثلاثية بـ«الغرفة المقفلة» وبداية على هذا الوقع «بدا لي الآن أنّ فانشو كانت دائماً هناك».
بداية أوستر الروائية ضربة ثلاثيّة مدوخة، حوّل روايات التحري الأثيرة لدى الملايين حول العالم إلى مساحة لامتناهية لقلق وجودي وضياع لا نهاية له، أمسى المحقق معه وحيداً وعلى شيء من المفارقة بين مهنته التي تحلّ مشاكل الآخرين، ليُمسي هو المشكلة. وكلما بحث عن حلّ، كلما تشابكت حوله الخيوط وغدا العالم غامضاً ومبهماً.
لا تندرج «ثلاثية نيويورك» في خانة الأدب البوليسي. يرفض أوستر تماماً هذا التصنيف، وكل مَن قرأها يتبين له ذلك. «لقد فعلتُ مثلما فعل ثرفانتس بروايات الفروسية»، توصيف دقيق لعمله الروائي الأول الذي لم يكن قد سبقه إلا عمل شعري وكتاب نثري حمل عنوان «ابتكار العزلة».
الهوس بأدب أوستر، لا يشبه هوسه هو بأدب صموئيل بيكيت وفرانز كافكا، إذ يمكن لهذين الكاتبين أن يطلّا بظلّهما على رواياته، لكن بخلطة عجيبة تمتزج مكوّناتها بصوته هو، فانعدام الفعل أمام عبثيّة الحياة يغدو على حركيّة عالية، والمأزق الذي تقع به شخصيّاته سرعان ما يمسي على شيء من اللّذة، والحلول دائماً غرائبية... فكلما ارتطمت بالحائط كلّما أحدثت ما يشبه الرنين، مع إصراره على تقديم شكلٍ جديد في كل عمل روائي يصدره.
شخصيّات أوستر تنعطف بحدّة، مخرج الأفلام الصامتة هيكتور مان يختفي من دون أن يودّع أحداً في «كتاب الأوهام» (2002) ويجد مؤلف كتاب عنه في تعقّب مصيره، مساحةً ليعود إلى الحياة التي عزف عنها بعد وفاة زوجته وابنه في حادث تحطم طائرة. في «ليلة التنبؤ» (2003)، يخرج الكاتب من المستشفى بعد علاجه من مرض مهلِك، تشتبك الرواية التي يؤلفها بقصّة حياته وبرواية أخرى، لتكون «ليلة التنبؤ» متاهةً من السرد والهوامش، وشخصيات لا نعرف مصيرها ما دام مؤلفها لم يكملها.
العودة إلى «موسيقى الحظ» (1990) تضعنا مجدداً في منعطف حاد تتحوّل فيه حرية ناش إلى عبودية، والمقامرة تكلّفه بناء جدار لا متناه، «بعد صدورها انهار جدار برلين، أربكني الأمر كثيراً». يعلّق أوستر وتحضر أيضاً «قصر القمر» (1989) وصناديق الكتب التي تركها العم فيكتور.
يعتمد أوستر دائماً على المصادفة والقدر والحظ، ويحتفي بتلك الآلية على نحو يبعد عنها سهولتها الدرامية، وعلى شيء من «ضربة المعلم». فهو يرى نفسه أولاً وقبل أي شيء كاتباً واقعياً، يطمح لتكون رواياته على قدر متساوٍ مع غرابة الواقع. وإن كان من «واقعية سحرية» وأخرى «قذرة»، فإن أوستر هو الأب الروائي لما يمكن تسميته بـ«واقعية المصادفة». لا بل إنّ الاطلاع على كتابه «كرّاس أحمر» (1995) سيضع القارئ في حيرة ملوّنة من كثرة القصص التي صادفها في حياته وقد كانت جميعاً من بطولة القدر. وفي الحوارات الثلاثة التي يحملها الكتاب، تمضي إجاباته دائماً إلى منبع أحداث رواياته. وللقارئ الحرية بعدم تصديقها لو أراد، لأنّها من الأمور التي يسهل وصفها بالخوارق اليومية.
بدأ أوستر بالشعر، وقد صدرت العام الماضي أعماله الكاملة عن «فيبر آند فيبر»، وما زال يرى الشاعر الألماني باول تسيلان أهمّ شاعر في القرن الماضي والحالي. انهمك في بداياته بالترجمة باعتبارها تمريناً مدهشاً على الصياغة على حد تعبيره. كما كتب سيناريو أفلام «لولا على الجسر» و«دخان» و«وحزن على الوجه». وكتب منذ عامين فيلماً ثالثاً وأخرجه، حمل عنوان «الحياة الداخلية لمارتن فروست»... لتبقى «موسيقى الحظ» روايته الوحيدة التي نقلت إلى الشاشة الكبيرة وكانت من إخراج فيليب هاس.
بول أوستر نيويوركي يعشق بروكلين، سرده على قدر مدهش من اللذة، يقتحمك وتقتحمه، ومتى كان مهادناً فلن تغفر له ذلك. لن تسامحه على «مستر فيرتيغو» (1994) أو «أسفار في الصومعة» (2007)، لا لشيء إلا لإخلاله بالجرعة المهدئة لمَن أدمنه، لمن يبحث عنه بوصفه حكواتياً حتى النخاع، وروائياً أمضى حياته في التحاور مع أناس لم يرهم أبداً، «مع أناس لن أعرفهم وأتمنى أن أواصل ذلك حتى اليوم الذي أتوقّف فيه عن التنفس. إنه العمل الوحيد الذي أردته».

حرب أهليّة في أميركا!



إن كانت «حماقات بروكلين» (2006) انتهت قبل 46 دقيقة من اعتدءات 11 أيلول (سبتمبر)، فإن هذه الأحداث لم تقع فيMan in the Dark، ولا غزت أميركا العراق. البديل عنها أمرٌ آخر: إنّها حرب أميركية أهليّة، مجاز سياسي يقدّمه بول أوستر للمرة الأولى، ويحمل قدراً كبيراً من هجاء جورج دبليو بوش وفوزه الانتخابي المزيّف.
يتخطى بول أوستر في «رجل في العتمة» الخيال الروائي إلى ما يمكن أن يكون سرداً افتراضياً أو Metafiction، فيه تتحالف العتمة مع الأرق ضدّ أوغست بريل الذي يجد في مخيّلته ملاذاً له في ليلة أرقه الطويل. بريل ناقد أدبي في السبعين من عمره، أقعده حادث سيارة، زوجته ماتت بسرطان الثدي، ابنته هجرها زوجها، بينما قتل صديق حفيدته في العراق. كل ذلك مدعاة لأن يجافيه النوم، وليس له إلا ابتكار شخصية أوين بريك وسيلةً لقتل الذكريات الراكدة في هواء غرفته. هكذا، يخرج أوين بريك من حفرته، بعد مقتل 13 مليون أميركي في حرب أهلية اجتاحت أميركا بعد نتائج انتخابات 2000 وإقرار المحكمة العليا فوز جورج بوش، وانفصال 16 ولاية عن الولايات المتحدة.
الصراع في رواية أوستر بين «المستقلين» و«الفدراليين» وخروج بريك من حفرته لا يهدف إلاّ للوصول إلى المؤلف وقتله لتتوقّف الحرب الأهلية: إنّها السبيل الوحيد لوضع حدّ لها..«انزع هذا الرأس ويتوقّف كل شيء» ما دام كل ما يشاهده يدور في رأس بريل.
الرواية فعل مجاورة بين مآسي الواقع ومآسي المتخيّل، مع تمرير ما يُشبه قراءة سينمائية لثلاث من كلاسيكيّات السينما العالمية: «الوهم العظيم» (1937) لجان رينوار و«سارق الدراجة» (1948) لفيتوريو دي سيكا و«عالم أبو» لساتيا جيت راي، وجد أوستر من خلال مشاهدة بريل هذه الأفلام مع حفيدته فرصةً لاستعراضها ولصقها بالرواية.