أسطوانة الثلاثي الفلسطيني وصلت من باريس

ثلاثة موسيقيين من فلسطين، بات اسمهم معروفاً. «تريو جبران» هو أول تركيبة في تاريخ الموسيقى الشرقية تقوم على ثلاثة عازفي عود. ألبومهم الجديد يكاد يكون امتداداً للعمل السابق «رنْدَنَة» (2005)، لولا بعض الابتعاد عن البيئة الأصليّة، لمصلحة رواج أوسع

بشير صفير
يجد الجمهور اللبناني صعوبةً في متابعة النشاط الموسيقي الفلسطيني، وخصوصاً الإصدارات التي تُنتَج وتُوزَّع في الداخل. لكن بعض تلك الإصدارات يصلنا من الغرب، فإذا بنا في أسفل قائمة الموزّع الأجنبي، فيما الأمر يتعلّق بأعمال فنيّة ينتجها البلد الأقرب إلينا جغرافياً وثقافيّاً ووجدانيّاً. بسبب هذا الواقع تأخر وصول ألبوم «مجاز» إلى بيروت (توزيع «هارمونيا موندي»)، أحدث أعمال لـ«الثلاثي جبران»، بعد أشهر من صدوره في باريس.
يتألف هذا الثلاثي الفلسطيني من الإخوة جبران، سمير (1973)، وسام (1983) وعدنان (1985). جميعهم يتقنون التأليف الموسيقي والعزف على آلة العود، بينما يتولى الشقيق الأوسط صناعة آلاتهم، هذه الحرفة التي ورثها عن والده وطوّرها بالدراسة في «معهد أنطونيو ستراديفاري» في إيطاليا.
مشوار فني شيّق، بدأ مع الشقيق الأكبر سمير الذي انطلق منفرداً أواسط التسعينيات، وأصدر ألبومه الأول «تقاسيم» (1996) ثم «سوء فهم» (2001)... قبل أن ينضمّ إليه شقيقه وسام في «تماس» (2002). في عام 2004، جاء دور عدنان، صغير العائلة، في الالتحاق بشقيقَيْه، لتبصر النور أوّل تركيبة في تاريخ الموسيقى الشرقية تضم ثلاثة عازفي عود.
هكذا، ولد «الثلاثي جبران» وأصدر ألبومه الأول «رنْدَنَة» (2005) الذي حوى أربع مقطوعات خاصة، بُنيَت على أساس التأليف المتين الحاضن في قالبه بعض التقاسيم المرتجَلة، إضافة إلى أداء حيّ لأغنية «أهواك» لمحمد عبد الوهاب.
في هذا العمل، حدّد «الثلاثي جبران» خطوطه الموسيقية العريضة، فقامت آلية التأليف وسير المقطوعة على عرض الموضوعة الموسيقية الرئيسة بدايةً، ثم تلوينها بجملٍ مقابلة لها، قبل أن يُصار إلى تطويرها (مع احتمال الخروج منها إلى موضوعة أخرى)، ثم يكون عود على بدء ــــ إجمالاً ــــ لإقفال الحلقة. هكذا يتحقّق ــــ تقريباً ــــ الشكل المعروف باسم «السوناتة» بلغة الموسيقى الكلاسيكية (Forme Sonate).
أما وجود ثلاث آلات متجانسة، فيساهم، من جهة ثانية، في خلق أرضية يتولاها عود أو اثنان، بهدف وضع جملة أخرى (يتولاها أحدهما) في الواجهة النغمية. والتركيبة الثلاثية هذه تسعى أيضاً إلى تضخيم الصوت الأحادي البُعد، أو إعطائه الزخم المضاعف وتغيير نسيجه... ويقدّمه بالتالي بأبعاد جديدة إلى الأذن التي اعتادت العود المنفرد. هذه المبادئ العامة، تنطبق أيضاً على الألبوم الجديد «مجاز» الذي حوى 11 مقطوعة موسيقية. لكن ما المسافة التي تفصل بين «رنْدَنَة» و«مجاز»؟
بدايةً، يكمن الفرق بين الألبومين، لناحية تركيبة الفرقة: ففي العمل الجديد، استقبل «الثلاثي جبران» عازف الإيقاعات يوسف حبيش. هكذا تَنبَّه الإخوة جبران إلى أنّ دخول آلة إيقاعية ليس من شأنه ضبط الإيقاع فحسب، بل أهم من ذلك، تلوين الصوت وإغناؤه في المقطوعات الهادئة، وتأمين الزخم في المقطوعات التي تحتاج إليه، ليصبح بوسع الأعواد أن تتفرّغ لأداء مهمّتها كآلات نغمية.
يُقسم «مجاز» إلى ثلاثة أقسام: المؤلفات الخاصة وعددها سبعة ــــ التقاسيم وهي ثلاث محطات مرتجَلة تولاها تباعاً عدنان وسمير ووسام ــــ ومقطوعة بعنوان «مِن زمان» أساسها مستوحى من الفولكلور المشرقي (يتخلّلها أداء غنائي جماعي للفرقة). التقاسيم التي حملت عناوين «تناسيم 1 و2 و3»، يمكن وصفها بالعبارات المختصرة التالية التي تدلّ على الشخصية الموسيقية لعازفيها: عدنان هو الأكثر جرأة وحسّاً حداثوياً، وسمير هو الأكثر تحميلاً للأحاسيس، ووسام هو الأكثر كلاسيكية.
اتّجه «الثلاثي جبران» في هذا الألبوم إلى اعتماد المقطوعات القصيرة، نسبةً إلى الألبوم الأول، ما أعطى العمل نَفساً أكثر قرباً من أُذن المستمع الغربي، ما يجعله أكثر تقبّلاً للموسيقى الشرقية، ويهمّش احتمال اللجوء إلى بعض الارتجال داخل المقطوعة الواحدة. لكن، من جهة أخرى، خفّف هذا الخيار من الرتابة التي تطالعنا في بعض جمل مقطوعات «رنْدَنَة»، وتنتج عن تكرار غير مبرّر كان يُفضَّل اختصاره لمصلحة التغيير، أو التنويع على الجملة نفسها.
هناك أمر آخر: لعناوين المقطوعات الواردة في «مجاز» دلالة مهمة، أي تلك المنقوصة في الانتماء إلى العروبة (والقضية الفلسطينية في هذه الحال).... فهي منتقاة من القاموس العربي الخاص بالمستغربين (كربيع أبو خليل وتوفيق فروخ...)، وتقوم على التفتيش عن كلمة عربية، ذات هوية شعبية أو أدبية (مسار، ربما، ليتنا، مزاج، شجن، هوانا...)، بحيث يكون الصوت الناتج من لفظها لافتاً وسهلاً على الأذن الغربية.
هل مشروع الثلاثي ابتعد قليلاً عن بيئته الغنيّة بمادة ثقافيّة تمكن إعادة إنتاجها موسيقياً؟ هذا على الأقلّ ما يتبادر إلى الذهن في بعض الأحيان خلال الاستماع إلى «مجاز»... الأمر الذي لا يقلل من الحفاوة في استقبال الألبوم، بل يدفع إلى طرح الأسئلة وفتح النقاش: هل «يغترب» الإخوة جبران عن المجتمع الفسطيني ــــ من حيث يدرون أو لا يدرون ــــ إذ يحملون صوته ومعاناته وقضاياه إلى أوروبا؟ هل تلك ضريبة العالميّة؟ سؤال كان يمكن طرحه على محمود درويش، الشاعر الراحل الذي استضافهم على المسرح أكثر من مرّة، لمرافقة أمسياته...

العود حالة خاصة في فلسطين



ما زالت آلة العود تجذب العدد الأكبر من المهتمين بدراسة آلة موسيقيّة شرقيّة في العالم العربي، على رغم الاتجاه الشبابي نحو الثقافة الموسيقية الغربية. هكذا، تتوارث المدارس والتيارات وتتطور مع الزمن في البلدان العربية، من العراق إلى سوريا ولبنان ومصر وفلسطين وغيرها...
في فلسطين، ينتشر العود بشكل كبير، مكوّناً بذلك الحالة المعاصرة التي تضمّ موسيقيين تبنّوا توجهات فنيّة مختلفة، بعضهم ما زال في بداية الطريق وبعضهم الآخر بات من الرموز المُكرَّسة محلياً وإقليمياً وحتى عالمياً.
إضافة إلى الموسيقي الفلسطيني العالمي سيمون شاهين صاحب «لهب أزرق»، و«الإخوة جبران» الذين يتمتعون بشهرة عالمية أيضاً، تمكن الإشارة إلى إسهامات الموسيقي الشاب أحمد الخطيب في خلق الصورة النقيّة للعود الفلسطيني في العالم، وذلك انطلاقاً من تأثره بالمدرسة العراقية (جميل ومنير بشير). للخطيب إصدار بعنوان «صدى» وفيه مؤلفاته للعود المنفرد وله نشاط موسيقي موازٍ مع فرقة «كَرْلُمَة» التي تقدم نمطاً شرقياً غربياً (مع ثلاثة موسيقيين آخرين، وللفرقة ألبوم وحيد بعنوان «كَرْلُمَة»).
من كبار العوادين الفلسطينيين نذكر أيضاً خالد جبران، المعروف كعازف بزق بشكل أساسي. له في هذا السياق إصدارات خاصة («مزامير» و«جسر»)، إضافة إلى عضويته كعازف بزق وعود في «فرقة الموسيقى الشرقية» التي تقدم الموسيقى الشرقية التراثية... وله معها ألبوم وحيد بعنوان «أم الخلخال».
ومن الأسماء البارزة في عائلة عازفي العود الفلسطينية، نشير إلى العازف المخضرم سامر طوطح صاحب ألبوم «غفران» الذي حوى عزفاً منفرداً وتقاسيم على العود، ووسيم عودة، الشاب الناصري الذي قام بجولات محلية وعالمية بعد إنهاء دراسته الموسيقية الأكاديمية، لكنه لم يُصدر بعد تسجيلات خاصة. وفي الآونة الأخير، برز أيضاً اسم العازف الشاب نزار روحانا الذي أصدر أخيراً باكورته «سرد» (مع مرافقة للكونترباص والقانون والإيقاعات).
إلى عازفي العود الذين عُرفَت أسماؤهم بفضل نشاطهم في إطارٍ منفردٍ و/أو في مجال التأليف الموسيقي، تضاف الأسماء التي تنشط تحديداً ضمن مجموعات، ونذكر ــــ على سبيل المثال ــــ عازف العود والمغني باسل زايد، العضو الأساسي في الفرقة الشابة «تراب» التي أصدرت ألبوماً وحيداً بعنوان «هادا ليل»، وحبيب شحادة حنا عضو فرقة «زمار».