تتدافع ذكريات العلّامة اللبناني بين النجف ولبنان، وتتوالى اعترافاته وردوده على منتقديه... هو الذي لا يُحسن حتّى الآن لفّ عمامته. كتابه شاهد على حقبة تاريخيّة عرفت خلالها المنطقة غلياناً ثقافياً وفكرياً وسياسياً
سعد هادي
يشهر هاني فحص منذ الصفحات الأولى لكتابه “ماض لا يمضي” (دار المدى) مواطنيته العراقية التي لا تقلّ عن مواطنيته اللبنانية عمقاً ووهجاً. بل هو يجد، كما يقول، احتياطه الذهبي الوطني في العراق حتى لا يذهب إلى اللامكان. وعلى مدى فصول كُتبت في سنوات مختلفة، يروي فحص ذكرياته في بلاد الرافدين التي بدأت في عام 1963 حين انتقل من قرية جبشيت في جنوب لبنان مباشرةً إلى النجف ليدرس في حوزتها. النجف بالنسبة إليه هي العراق كلّه، منها انطلق إلى حي كندة في الكوفة المجاورة ثم واصل رحلته إلى كربلاء وبغداد والأهوار، متذكّراً وجوه أصدقائه وأساتذته: الجواهري، السيّاب، مدني صالح، مصطفى جمال الدين، مظفّر النواب، حسب الشيخ جعفر... معرّجاً على ماضيه مذ كان يراهق بالكتابة في مدرسة في النبطية، مازجاً بين الذكريات والاعترافات. ويضيف إلى ذلك أيضاً تصويراً فريداً لنسيج العلاقات الفكرية والاجتماعية داخل الحوزة النجفية المغلقة على ذاتها والمنطوية على أسرار إعلامها. كما يقدّم مراجعة لأساليب التدريس فيها تقترب من أن تكون نقداً، لكنّه لا يذهب بعيداً في تطرّفه. تعود تلك الأساليب، كما يقول، إلى حالة أقرب إلى البدائية تتيح علماً وجهلاً، بنفس السهولة أو الصعوبة من دون مانع من أن ينطلي الجهل ويلتبس بالعلم إذا توافرت له ظروف مؤاتية. أما أهل التجديد في الحوزة، فنظر إليهم دائماً كأدباء أكثر منهم كعلماء، لأنّهم تورّطوا في كتابة الأصول والفقه بلغة جديدة وترتيب جديد، بينما كان السائد هو “الانشغال والاشتغال” على العبارة الغامضة والمدوّرة والاختزالية. إن ذلك يعبّر عن صراع غير معلن، كما يلمّح، بين القوى التي تتحكّم بالحوزة مثلما يعبّر أيضاً عن تنظيمها الاقتصادي الصارم كمؤسّسة تاريخية ذات تراتبية لا سبيل إلى اختراقها. وقد جاء انتقاله هو مفاجئاً أوائل الستينيات من لبنان المهموم بآخر أسئلة الحداثة إلى الحوزة الدينية في النجف المهمومة بأوّل أسئلة الحداثة. النجف التي كان يطغى عليها جدال مستمر بين الصراط والواقعية، وبين ثنائيات وإشكاليات أخرى، بعضها مظهري وسلوكي وبعضها الآخر فكري. إنّ ما قام به طلبة العلم اللبنانيون في الحوزة مثلاً عُزي إلى لبنانيتهم الحداثوية أكثر من أي شيء آخر. فبعد أشهر من التزامهم بالمداس، انتعلوا “الكندرة”محتملين نقداً خفيفاً من دون أن يؤدي ذلك إلى حجب رواتبهم الضئيلة. ولم تمر سنة حتى تجرّأوا على وضع الساعة في معاصمهم، مع الحرص على إخفائها في بعض المجالس، ثم ضرب بعضهم ضربته الكبرى فارتدى البنطال تحت الجبة. ومن خلال ذلك، بدأوا بالتسرّب إلى حيّز أعقد في إشكاليته بقراءة المجلات العربية الأسبوعية، ثم الانتقال إلى الدوريات الأدبية والفكرية: “الآداب” و“الفكر المعاصر” و“الهلال” ثم “الطريق” و“الطليعة”. ويضيف فحص: “كنّا امتلأنا بهموم الحداثة شعراً ورواية ومسرحاً ونقداً، ولم يكن بدعاً أن يجري في مجالسنا حديث عن الدادائية والسريالية... كان هناك إقرار بجدّيتنا وطرافتنا وخطورتنا. ولأنّ المحدد الأول والرئيس للنجف هو العلم والثقافة، فإنّنا لم نقرب السياسة إلا لماماً، إلى أن كانت النكسة ففجعنا، لندخل في جدل ثقافة النكسة وثقافة النهوض”.
يروي فحص أنّه مع بدء العمليات الفدائية وسماع الشيفرات في الإذاعة، صار حلمه خوض عمليات فدائية يخطّط لها بسريّة تامة لتدمير العدو في لحظة واحدة. وكان يحلم أيضاً بأن يتحول إلى صاروخ خرافي، مشيراً إلى أنّ ذلك ربما ترسّخ لديه من الحالة الكوسموبوليتية التي انتقلت عدواها إليه ممن عاشر من القوى القومية والإسلامية والأممية، ولاحقاً تحوّلت تلك الأحلام بسبب التطوّرات السياسيّة إلى كوابيس متصلة، اضطرته إلى الهرب ثانيةً إلى القرآن والشعر والتاريخ والحوار اليومي والجدل المتوتّر ورفع منسوب الوعي السياسي الذي كان يفتقر إليه. ويؤكد أنّ ما تعاطاه لم يغتن منه أو به كثيراً على عكس ما سجّله بعض الإطلاقيين من خطباء الإسلام السياسي (كما يصفهم) عليه، من أنه ذهب إلى النجف على خلفيات سياسية قومية واشتراكية. وحين عاد إلى لبنان في عام 1972، بدت الإقامة الطويلة في الأحلام أمراً مضنياً، فدخل في مشروع أدبي ثقافي، ثم انخرط في المقاومة وفي الجدل اليومي بين الفعل المحرر والوجع المبرح. وظل أيضاً مدمن أحلام، لكنّه حوّل حلمه إلى اتجاه آخر، تنموي نهضوي تربوي شامل، وبدأ يقضي ساعة أو ساعتين قبل النوم غارقاً في شؤون بستانه المرتجى الذي اختار له أرضاً في “الوطى” بين قريته وقرى أخرى. لكنّه بعدما فشل ذلك الحلم بسبب تردّي الحالة السياسية في لبنان، انتقل إلى حلم أكثر تواضعاً وخصوصيةً، يكتفي فيه ببيت على مرتفع من مرتفعات ضيعتهم.
وتتوالى ذكريات هاني فحص بين النجف ولبنان، كما تتوالى اعترافاته وتلميحاته الانتقادية وردوده على منتقديه. هو الذي لا يتقن حتى الآن، كما يقول، تثبيت عباءته على كتفه، ولم يعتد تمشيط لحيته، ولا يحسن لفّ عمامته ولا إصلاحها. ما زالت ذاكرته ترهقه بقوتها، وقد حرمته النوم الضروري لصحة الروح والعقل والوطن والأمة والجسد.