في «مجلّة لقمان» (دار الجمل)، يقتنص الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير مقتطفات من كنوز النثر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام... فاتحاً الباب أمام سلسلة أسئلة: هل جرت تصفية النثر الجاهلي لقربه من لغة القرآن؟ هل كان الإسلام عاملاً تاريخياً محايداً... أم أدّى دوراً متعمّداًً في ضياع هذا النثر؟
حسين بن حمزة
في كتابه الجديد «مجلة لقمان» (دار الجمل)، يغوص الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير في مصنّفات التراث العربي، ويعود منها بمقتطفات من كنوز النثر العربي في الجاهلية وصدر الإسلام. العنوان المعبِّر والجميل مستلٌّ من حكاية وردت في السيرة النبوية عن حوار دار بين النبي وسويد بن الصامت، أحد حكماء الجاهلية. نفهم منه أنّ ألواحاً مكتوبة أشبه بـ «كتاب مقدس» كانت موجودة لدى الوثنيين العرب.
ثمة أبحاث وآراء عدة تحدث أصحابها عن أهمية النثر العربي القديم، وعن الظلم الذي وقع عليه لمصلحة الشعر. الجهد الذي بذله عبد الأمير يصبّ في هذا السياق. الفرق أنه يثير تساؤلات تتجاوز منطق الشعر والنثر، أو تفضيل أحدهما على الآخر فنياً وجمالياً. يضمّ الكتاب مختارات من أدب الجاهلية النثري. لكنه يلمِّح، في الوقت نفسه، إلى احتمال وجود أسباب أيديولوجية ودينية أسهمت في اندثار الجزء الأكبر منه. هناك دعوة ــــ وإن مبطّنة ــــ إلى إعادة الاعتبار للقيمة الدينية والعقائدية لجزء من النثر الجاهلي. كأنّ عبد الأمير يقول إن ظهور الإسلام طمس التراث الوثني العربي أو ــــ على الأقلّ ــــ أوقفه عند حدود النبوة المحمدية. لقد أشار عدد من النقّاد القدامى إلى أنّ ظهور الإسلام «أفسد» الشعر العربي. لنتذكر رأي الأصمعي في شعر حسان بن ثابت (الشاعر الجاهلي الذي أدرك الإسلام) حين قال: «الشعر نكدٌ بابُهُ الشر، فإذا دخل في الخير ضَعُفْ. هذا حسّان فحلٌ من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره».
كتب عبد الأمير مقدمةً قصيرة لمختاراته، تاركاً مهمة الاستقصاء للباحثين والأكاديميين لأخذ تساؤلاته إلى نهاياتها: هل جرت تصفية النثر الجاهلي لقربه من لغة القرآن وبلاغته؟ هل كان الإسلام عاملاً تاريخياً محايداً... أم أدّى دوراً متعمداًً في ضياع أغلب هذا النثر وبقاء «الناجي» منه متفرقاً ومبعثراً؟ هل امتلك الشعر والنثر الجاهليان صفةً مقدسةً في نظر عرب الجاهلية، وهل هذا ما جعلهم يعلّقون «المعلّقات» على الكعبة؟ هذه عيِّنة من الأسئلة التي يسعى عبد الأمير إلى إثارتها لدى القارئ.
في المقابل، يستطيع القارئ الاستمتاع بما اختِير له من عيون النثر القديم، من دون أن يهتمّ بالقضايا المحتجبة وراءها. كما أنّ هذه القضايا قد تكون مجرد أوهام أيضاً. إذْ ما الذي يمنع أن تكون أطروحة «التباكي» على النثر الجاهلي نتاجاً لقراءة يُبالغ أصحابها في تقدير هذا النثر فيضعونه في مرتبة أرفع مما يستحق. وهي قراءة ستجد بسهولة مناصرين متعجّلين يدفعهم الكتاب إلى الادعاء بأنّ مقولة «الشعر ديوان العرب» كانت ستتحطّم لو وصل إلينا النثر الجاهلي كله؟.
يؤكد شوقي عبد الأمير في المقدمة أنّ الشعر الجاهلي كان مرآة الأنا العربية الغنائية، وأن النثر هو مرآة المجتمع وحكمته. هذه قراءة صحيحة طبعاً. لكنّها تتجاهل أنّ الشعر الجاهلي كثيراً ما دُرس انطلاقاً من التساؤلات الفلسفية والوجودية فيه، أي من كونه مرآة لمجتمعه. النثر الجاهلي يُقدّم صورة أكثر واقعية عما كانت عليه تصاريف الحياة في ذلك الوقت. لكن من قال إن الشعر لم يفعل ذلك أيضاً؟. عبد الأمير مصيبٌ حين يرى أنّ إهمال النثر الجاهلي يمثّل «نقصاً أساسياً في ملامح تراثنا الأقدم والأغنى بما لذلك من انعكاس على صورة الهوية العربية بأكملها». لكن ينبغي ألّا ننجرّ إلى استنتاجات سريعة تُعيد الاعتبار إلى النثر الجاهلي وتبخس الشعر حقّه هذه المرة. بمعنى أن يجري إنصاف النثر من حصة الشعر.
الكتاب مقسّم بحسب نوعية ما جُمع من نثر الجاهلية وصدر الإسلام. هناك فصل للخُطب وآخر للوصايا وثالث للمفاخرات، إضافةً إلى مختارات متفرّقة في الأمثال والوصف والحكمة والبلاغة... النصوص المختارة تقدّم صورة وافية لجوانب من حياة الجاهلية. نستعيد حكمة قسّ بن ساعدة وأكثم بن صيفي والحارث بن عباد وغيرهم. حيث كل عبارة تصلح حكمةً أزلية أو قولاً مأثوراً. نكتشف أنّ الكثير من أمثالنا الراهنة قادم من خطبهم. نقرأ نثراً لبعض الشعراء: النابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم وامرؤ القيس... حضور الشعراء كناثرين ضئيل. لكنّه قد يخلخل نظرية «النثر» التي يقوم عليها الكتاب. لن نلوم القارئ إذا فضّل بيتاً ــــ وردَ بالمصادفة في نثرٍ لامرئ القيس ــــ على كثير من النثر في الكتاب. لنقرأ: «إذا جالتِ الحربُ في مأزِقٍ/ تُصافحُ فيه المنايا النفوسا».