مركز ثقافي يحمل اسمه في الناصرة، وألبوم لمارسيل خليفة يضم مجموعة جديدة من أشعاره، ورام الله تستعيده في شريط «هوية الروح»، والأردن يفتتح متحفه، وأمسيات من بيروت إلى برلين مروراً بالبحرين والجزائر. ذكرى الأربعين لغياب صاحب «كزهر اللوز أو أبعد»، مناسبة لإعادة طرح مجموعة من القضايا الفكريّة والجماليّة
محمد شعير
لم يُدفن محمود درويش (13 آذار/ مارس 1941 ــــ 9 آب/ أغسطس 2008) في تراب الجليل كما تمنّى، وكما طالب أقرب أصدقائه في بيان بعد رحيله، لأنّ وجوده هناك سيحوّله إلى رمز «جديد» يؤكد أنّ الأرض لأصحابها الحقيقيّين، فيما إسرائيل تريد التخلّص من كل الرموز التي تذكّر بأنّ شعباً كان هنا فوق هذه الأرض اسمه الشعب الفلسطيني. لكن لم يكن مدهشاً أن تتقدّم إسرائيل بطلب من أسرة الشاعر الراحل للموافقة على إطلاق اسمه على جائزة أدبية إسرائيلية خاصة بالتفرغ الأدبي (الاقتراح قوبل بالرفض من أفراد العائلة طبعاً). فهي محاولة لاستعمال صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً»، عبر تطويق الرمز الرمز وتدجينه وتسخيره في خدمة المؤسسة الصهيونيّة «الحضاريّة» و«المنفتحة» على «رعاياها» و«أقلياتها العرقيّة»!
ومحاولات الاحتواء لا تتوقف عند حدود المؤسسة الرسميّة في إسرائيل. كثيرون اليوم يعملون على تسخير الرمز في خدمة المصالح الاستعماريّة، وتجييره لمصلحة خطاب تسووي يساوي الضحيّة بالجلاد، ويروّج لـ«سلام» أجوف على حساب الشعب الفلسطيني. نفكّر مثلاً بمبادرة برلين التي كان يمكنها أن تكون تقليداً رائعاً لولا السموم المدسوسة في البيان الصادر أخيراً عن «المهرجان الأدبي العالمي» في العاصمة الألمانيّة. البيان يدعو كلّ شعراء العالم، والمؤسّسات الثقافيّة إلى اعتبار 5 أكتوبر يوماً لإحياء ذكرى درويش عبر «إقامة أمسيات شعرية لقصائده في أنحاء العالم». المبادرة جاءت من برايتن برايتنباخ، الشاعر الجنوب أفريقي، وهو صديق شخصي لدرويش. الشاعر الذي كان من أشهر رموز النضال ضدّ نظام التمييز العنصري السابق في بلاده، اقترح أن يخصّص اليوم الأخير من المهرجان الذي سيكون هو ضيفه الرئيسي، لقراءة أشعار درويش. ولم يكن من إدارة الملتقى سوى أن أعدّت بياناً بهذا الشأن، لم يلبث أن وقّعه عشرات الأدباء المعروفين في العالم، جاءت صياغته «ملغومة»، كالعادة حين يتعلّق الأمر بفلسطين والعرب في أوروبا غالباً.
رأت إدارة «المهرجان الأدبي العالمي»، أنّها لا تحتفي بدرويش وأعماله فقط، بل أيضاً «بسعيه الدؤوب للتوصل إلى تعايش سلمي وعادل بين العرب والإسرائيليين». كأن الجانب الألماني كان في حاجة إلى مبررات، كي يلتمس عذراً مسبقاً على الاحتفاء بدرويش الفلسطيني، فإذا بالشاعر الكبير، يتحوّل من رمز للمقاومة إلى... رمز للسلام!
هل اختفت المقاومة من شعر درويش الأخير أم تحوّلت وارتقت؟ لعل درويش أراد أن ينقذ قصيدته من «التعب الجمالي» الذي أصابها تحت وطأة الراهن الفلسطيني؟ كان الشاعر الراحل يدرك أنّ قوته الحقيقية «لغوية» بالأساس. وكان مسكوناً بهاجس التعبير عن ذاته «في محيطها وجغرافيتها المحددين» من دون أن ينتبه إلى تقاطع تلك الذات مع وجدان الجماعة. هكذا تقاطعت تجربته الشخصية مع قصة شعب كامل اقتُلع من المكان والزمان، فوجد القراء أنفسهم في صوته الشديد الخصوصيّة.
في وقت مبكّر، وتحديداً عندما أطلق صرخته على النقاد «أنقذونا من هذا الحب القاسي»، انتبه إلى أنه «لا يمكن أن يظلّ كل شعرنا وأدبنا وموسيقانا وفننا التشكيلي محصوراً في علاقة الأنا والآخر على هذا المستوى الصراعي. يعني أن يكون الإنسان الفلسطيني لديه حياة إنسانية... وأحزانه الشخصية التي ليست شرطاً أن تكون ناجمة عن قضايا كبرى،».
فى ذلك الوقت، بدأ يكتب عن الحب في «سرير الغريب»، عن الوجود والموت في «جدارية». وعندما بدا لبعضهم أنّه تخلّى عن القضية، كتب قصيدته «محمد الدرة»، وأصدر ديوانه «حالة حصار» الذي أراد أن يثبت فيه أنّ «السياسة لا يمكنها أن تغيب تماماً عن هوامش القصيدة أو خلاياها. لكن السؤال هو كيف نعبّر عن هذه السياسة». عندما سألناه إذا كان الديوان عودةً إلى الشعر السياسي الذي يحاول الهرب منه، أجاب: «الشاعر يتحرّك بين مطلبين: المطلب الأخلاقي وهو الواجب الوطني. فلا يستطيع أن يكون حيادياً تجاه ما يحدث. والمطلب الخاص بأن تكون لديه شروط جمالية ومتطلبات بلاغية عليه أن يوفيها حقها، وأي شكل من أشكال التعبير عن هذه العلاقة وتوترها يجب أن يكون شعراً. ونحن نحاكم الشعر، ليس بناءً على ما يقوله وإنما بناءً على كيفية ما يقول شعرياً. فالشاعر الحصيف المدرب يستطيع أن يجد توازناً بين واجبه الأخلاقي وواجبه الجمالي».
في هذا الديوان، خصّص درويش قسماً كاملاً يتحدّث فيه عن السلام لا كمفردة سيئة السمعة كما في الثقافة العربية، ولا بالمعنى الذي طالب به بيان برلين، بل السلام الحقيقي: «السلام نهار أليف لطيف خفيف الخطى لا يعادي أحد/ السلام قطار يوحّد سكانه العائدين أو الذاهبين إلى نزهة في ضواحي الأبد/ السلام هو الاعتراف علانية بالحقيقة/ ماذا صنعتم بطيف القتيل؟/ السلام هو الانصراف إلى عمل في الحديقة/ ماذا سنزرع عما قليل/ السلام رثاء فتى ثقبت قلبه شامة امراة، لا رصاص ولا قنبلة».
في ذكرى الأربعين لرحيله، تتواصل محاولات «تطويق» محمود درويش إذاً على أكثر من جبهة: داعية سلام في برلين، وشاعر سلطة لدى بعض منتقديه العرب. أما السلطة الفلسطينية نفسها، فحاولت أن تستأثر به بدورها، وهو ما حدث الأسبوع الماضي عندما طلبت منظمة التحرير وضع يدها على بيت درويش في الأردن وتحويله إلى «متحف». وهو الأمر الذي رفضه أصدقاؤه هناك، مؤكدين أنّ الشاعر رفض قبل رحيله أن يُنقل كتاب واحد من مكتبته. سيتحوّل البيت إلى متحف فعلاً، لكن ليس تحت رعاية رسميّة، بل بإشراف أصدقاء الشاعر في الأردن. ومن المقرر أن يُعلن هذا المشروع في 4 تشرين الأول (أكتوبر) في الاحتفالية الكبرى التي تنظمها «رابطة الكتّاب الأردنيين» بالتعاون مع وزارة الثقافة الأردنيّة، وتستضيف الفنان مارسيل خليفة الذي سيؤدي عدداً من القصائد التي لحّنها للشاعر الراحل. وكان الموسيقي اللبناني ضيفاً الأربعاء الماضي على البحرين، في حفلة أقيمت في «مركز الشيخ إبراهيم للثقافة والبحوث» وشاركه فيها الإعلامي اللبناني زاهي وهبي والشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي. وكشف مارسيل عما دار في آخر مكالمة مع درويش: «أبلغته عن ألبوم جديد يضم مجموعة جديدة من أشعاره سيصدر في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل».
وفي الأردن، تعلن وزارة الثقافة اعتبار العام المقبل «عام محمود درويش»، ويتخلله تنظيم أمسيات وندوات تتناول تجربته الشعرية... ومن بينها حفلة يحييها هذا المساء الفنان اللبناني خالد الهبر (مقالة الزميل أحمد الزعتري في مكان آخر من الصفحة).
في القاهرة، يبدو الأمر مختلفاً: إجازات الأعياد واحتفالات اكتوبر أجّلت الاحتفالية التكريمية التي كان من المزمع أن يقيمها «المجلس الأعلى للثقافة» إلى منتصف تشرين الأول. كذلك فإنّ الجامعة الأميركية في القاهرة ستقيم الاثنين حفلة تأبين يشارك فيها الناقد صلاح فضل، ورئيس تحرير «الأهرام» أسامة سرايا، والشاعر محمد إبراهيم أبو سنة.
وعلى امتداد الوطن العربي، أقيمت أكثر من أمسية لتأبين الراحل، من بينها احتفال أقامته المكتبة الوطنية الجزائرية التي أعلنت أيضاً تنظيم احتفال آخر يتضمّن قراءات شعرية في الخامس من الشهر المقبل. وتحت عنوان «قراءات في حضرة درويش»، نظّمت «مؤسسة عبد المحسن القطان» في رام الله (أدناه مقالة الزميلة نائلة خليل)، أمسية قراءات أدبية في ذكرى الأربعين «لحضور/ غياب» الشاعر. قرئت خلال الأمسية نصوص لسعدي يوسف وفيصل دراج وقاسم حداد ولينا طيبي وإلياس فركوح وخالد مطاوع وسعيد الغانمي وشاكر اللعيبي وفخري صالح والزميل بيار أبي صعب وآخرين. كذلك افتتح أخيراً في الناصرة المركز الثقافي الذي يحمل اسم الشاعر الفلسطيني الكبير.


«محمود درويش... أربعون يوماً في حضرة الغياب»، هو عنوان الأمسية التي يقدّمها «مسرح المدينة» و«الحملة الأهلية لإحياء الذكرى الستين للنكبة/ لبنان» و«عائدون» في ذكرى أربعين درويش في التاسعة من مساء بعد غد الاثنين في «مسرح المدينة». الأمسية التي يديرها الكاتب اللبناني سماح ادريس، ستتخلّلها قراءات للشاعر نزيه أبو عفش، والكاتب فيصل درّاج، والشاعر أحمد دحبور، والناقد محمد دكروب، والشاعر حسن العبد الله. للا