شاكر لعيبي أرجو مسامحة ظني في أن مسارعة الكثير من الأدباء والصحافيين العرب إلى رثاء محمود درويش إثر موته مباشرة، بل بعد ساعات معدودات منه، كان ينقصها الألم النغّار العميق. ألم يكن من الواجب الانتظار قليلاً كي تخفت كثافة الحزن الهابط على القلوب الحرّى بفقدانه؟. هبط الخبر مباغتاً حتى على الفلسطينيين أنفسهم الذين عوّدوا البشرية الموت والانبعاث، ثم الموت والانبعاث، في دورة كونية تعلن عبر الموت نقيضَه، وتصْدَح بمديحٍ للحياة ورغبةٍ قصوى بها. لكن غياب محمود درويش الصاعق صَعَقَ جُلّ العرب بالأحرى لسببين أحدهما يتعلق بالشعر العالي، والثاني باليتم البيولوجي والإنساني الرفيع. لم تحتمل الأرواح، وسط هذا الركام من البهرج الشعري وأكاذيب الاستعارة الجاهزة، غياب شاعر حقيقي نبض قلبه الحيّ في بِرْكة الشعر وبَرَكَتِه. لقد صرنا أيتاماً بمعنىً من المعاني من بعده، فلم نحتمل غياب الأقلية القليلة التي تعبّر عن ضمير مستترٍ وشرفٍ تاريخي مفترَض مسفوح مُباح كل لحظة، وهنا يقع السبب الثاني.
ومن دون نسيان الكائن الإنساني محمود درويش بألقه وضعفه، المرتبط بالأرض ــــ الأم لكن أيضاً بالمؤسسة الثقافية والسياسية، فإن درويش يغدو منذ اللحظة رمزاً عربياً عن جدارة. يصير أيقونة شعرية وإنسانية في عالم تنقصه الرموز النبيلة والأيقونات المبجَّلة المحفورة عميقاً في الروحانيّ والمعرفيّ.
مهما كابر البعض فإن شعر محمود درويش لن يمرّ أمامه إلا مشحوناً بالمعنى العميق ومكتنزاً بالجمال المُّر، متوتراً مثل شخصه وخلّاقاً مثل فلسطين ومشعّاً بالدلالات مثل العالم الكبير الذي ارتبط درويش بنسغه عبر قرية مُبادة. ومهما فحصنا مرجعيات شعره وأصوله وتأثراته فلن نشك للحظةٍ في وجود صوتٍ خاص، نافر، فريد يضع المتنبي إلى يمينه والسيّاب إلى يساره ويمشي بينهما شامخاً.
بعيداً عن أوهام المؤسسات الشعرية والسياسية ومتطلّباتها فإن درويش معلّم آخر مقلق في سيرورة الشعر العربي الحديث. وسط صغائر المؤسسة وألاعيبها انبثق شعر درويش كبيراً، ومن بين ركام حجارة البيت المتهاوي تحت أنياب الجرافات أو تلك الحجارة نفسها بين أيدي المنتفضين المرتفعة في الضوء والساقطة على رؤوس المحتلين، طلع شعر درويش ضوئياً صافياً مغموساً بالعذاب الأسيان، وهي يناجي الموت والحياة وما بينهما من فسحة فسيحة. عذابه، في آن واحد، من نمط عذاب الأرباب الرافدينيين بعد مأساة الغرق الشامل، والآلهة اليونانية، العابثة والمأساوية والحكيمة، وهي تنقل صخرتها من السفح إلى القمة دون كلل.
من دون كلل، عاش محمود درويش وتنقل وكتب الشعر والنثر، مدفوعاً بشهوة لا تطاق للحياة لن يستطيع الموت إيقافها لأنها ما زالت نابضة في شعره. من يبسط شعره إلى محض همّ مباشر لا يفقه، للأسف، المحرِّك الهائل الذي كان يحرّكه. صحيح أن شعره قد انتشر في العالم العربي بسبب التصاق العرب العاطفي بالقضية الفلسطينية، لكن هذا الجانب ليس سوى القناع الإيهامي الذي تختفي تحته أكبر الاستعارات الوجودية الصافية التي تجلّت لاحقاً بنصوص عارية تنام في حديقة الشعر المُكتمِل. صحيح أيضاً أن ما بقي في ذاكرة بعض كتبة الرثاء كان شعره المُباشر الأول، وهو ما أزعج درويش مراراً وتكراراً، وسيجعله قلقاً في قبره. وهو أمر يؤشر إلى أن درويش قد تجاوز في العشر سنوات الأخيرة من حياته الذائقة والمزاج الشعريين الصاخبين نحو تخوم لا متناهية يرقد الآن قربها.
عندما أقول إنّ محمود درويش يمثل أيقونة عربية عن جدارة فإنني أحيل إلى المعنى العميق للأيقونة: تمثيلٌ مثقل بالرمز التاريخي والدلالة الروحية اللتين يبجّلهما المؤمنون المسيحيون. درويش رمز للشعر الصافي ولصورة الشاعر المُصفاة في ذاكرة العرب وغيرهم من الشعوب، من جهة، ودلالة على الروحاني في علاقة أمةٍ من الأمم بالأرض المنتهكة من جهة أخرى. في هذا الأفق ستبقى أيقونة محمود درويش شاخصة.