«بورنو الزعران»، شخصيّات غريبة وخيوط متشابكةزياد عبدالله
اتتشابك على أصابع ديفيد فينشر خيوط الجرائم التي حملتها أفلامه، ولا تمضي الألغاز والألعاب بهذا المخرج الأميركي إلا إلى مزيد من التشويق الذي يمثّل رهانه الأول والمساحة الحيوية لأعماله. في جديده «الحالة العجيبة لبنجامين باتون» The Curious case of Benjamin Button الذي سيبدأ عرضه الشهر المقبل في أميركا، يطرق فينشر باب التشويق مسلّحاً بخيال ايريك روث (كاتب سيناريو «ميونيخ» و«علي» و«الراعي الصالح»)، وغرابة الشخصية التي خلقها على مقاس براد بيت، بينما يستعين في فيلمه الثاني Rendez vous with Ram (موعد مع راما) الذي يستعدّ لتصويره برواية آرثر كلارك ــــ صاحب «2001، أوديسة الفضاء» التي خلّدها ستانلي كيوبريك على الشاشة ــــ قافزاً إلى الفضاء هذه المرة وقد ضاقت به الأرضلقد حطّم فينشر الرقم قياسي بعدد الأفلام التي كان يُفترض به أن يُخرجها، ولم يفعل لأسباب متعددة... لعلّ آخرها «الداليا السوداء» (2007) الذي أخرجه براين دي بالما، مروراً بالجزء الثالث من «مهمة مستحيلة» والجزء الثاني من «سبايدر مان» وصولاً إلى «هانيبال» و«اعترافات عقل خطير» وغيرها من الأفلام التي جعلته عرضةً لفترات انقطاع طويلة: بين «زودياك» الفيلم الذي أخرجه العام الماضي و«غرفة الهلع»، هناك خمس سنوات مرّت لم يحقّق فيها فينشر أي شريط سينمائي... كما أنّ تلك «الغرفة» التي تنغلق على جودي فوستر، تفصلها عن «نادي القتال» (1999) ثلاث سنوات وقد سبقته بثلاثة أفلام هي «اللعبة» (1997) و«سبعة» (1995) و«مخلوق فضائي» (1992).
تلك هي كل الأفلام التي أخرجها ديفيد فينشر الذي أكمل السادسة والأربعين الشهر الماضي. ولعل استعادتها تضعنا أمام هوس واضح بغموض الجريمة، بمساحة الالتباس التي تُطالعنا بها، وإصرار متواصل على الغوص في عوالم السيريال كيلرز، كما فعل في «سبعة» مع براد بيت ومورغان فريمان... لتكون الجريمة هنا فعلاً طهرانياً، واكتشافها على علاقة وثيقة بالخطايا السبع.
يعود المخرج إلى «سيريال كيلر»، أو مرتكب الجرائم المتسلسلة، محاولاً كشف لغزه بأسلوب مختلف في «زودياك»، حيث تصل رسائل القاتل إلى صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل». وبدلاً من اكتشاف هوية القاتل، فإنّه ـــ والتزاماً بالقصة الحقيقة ـــ يترك الأمر في نطاق الافتراضات، وإلى جانبها مصائر كل الشخصيات التي تورطت في البحث عن الحقيقة، مثل روبرت غريسميث (جاك غيلنهل) صاحب الكتاب الذي اقتُبس عنه الفيلم، وحلّت عليه لعنة اكتشاف زودياك، ومن ثَمّ المحقّق ديفيد توتسي (مارك رافيلو) الذي يمضي عمره في تلك القضية، إضافة إلى الصحافي بول ايفري (روبرت دوني) الذي يستقيل من «كرونيكل» ويتحول إلى مدمن على الكحول والمخدرات بعدما كان السبق الصحافي في تلك القضية مرتبطاً باسمه.
إلى جانب الجريمة، يحضر لدى فينشر انغماسٌ في نوع آخر من التشويق الذي يتخذ من غرفة مساحةً له. والمقصود هنا «غرفة الهلع» طبعاً، وكل تجهيزاتها التي حالما توصد على ميغ ألتمان وابنتها يبدأ الرعب... بينما نجد مايكل دوغلاس في «اللعبة» يمشي على خطّ رفيع بين الجد والمزح، مع احتمالات تُمسي مؤكدةً بأنّ اللعب هذه المرة سيكون بحياته التي تنقلب رأساً على عقب إلى درجة تبلغ به حافة الموت.
من بين تلك الأفلام، يخرج «نادي القتال» كانعطافة على صُعد عدّة. إذ إنّ المساحة ليست للتشويق لمجرد التشويق، بل إن هناك انحيازاً تاماً للشخصيات: بدءاً من جاك وفصامه الحاد الذي يجسّده تايلر ديردين، وتكثيفاً حاداً لـ«بورنو الزعران» كما وصفه الناقد الأميركي روبرت ايبر، بناءً على حلم ديردين المدمّر الذي يطال كلّ الطبقات الدنيا وأصحاب المهن الخفيفة في الأرض.
هكذا علّق تشاك بولانيوك صاحب الرواية المأخوذ عنها الفيلم بأنّه «شعر بالخجل أمام المعالجة الدرامية التي أظهرت عللاً كثيرة في الرواية». لم يتكرّر مع فينشر شيء يشبه «نادي القتال». بقي دوماً ضمن المتوقع منه على صعيد اختياراته، من دون أن تفارقه القدرة الدائمة على تقديم فيلم محكم، وإن امتد زمنه إلى 158 دقيقة كما في «زودياك»، وكان الرهان على الـ«سيريال كيلر» (مرتكب الجرائم المتسلسلة) والشخصيات المحيطة به. إنه حرفي بامتياز، وكلّما قدم فيلماً جديداً، أكد قدرته المدهشة على التطوّر.
بدأ فينشر علاقته مع الكاميرا من خلال الإعلانات التلفزيونية، وصوّر عدداً كبيراً منها، لماركات كبرى مثل «كوكا كولا» و«نايكي» و«هاينكن» وغيرها.
انتقل بعد ذلك إلى الأفلام الموسيقية التي تتناول حفلات كبرى لمشاهير الفنانين مثل مادونا وستينغ ومايكل جاكسون و«رولينغ ستونز».
ولعلّ هوسه بالموسيقى والموسيقيين لا يفارقه، فهم وسيلته المثلى في ملء فترات انقطاعه الطويلة، بالاستعاضة عن إخراج الأفلام الروائية بأخرى عن حياة المغنّين والمغنيات، وآخرها كان منذ عامين عن جورج مايكل وحمل عنوان «خمسة وعشرون».
الآتي من جهة هذا المخرج ما زال يندرج تحت خانة الرهان، مع التأكيد على أسلوبية خاصة مرتبطة بلقطات طويلة وموسّعة، وإصرار دائم على أن يحمل كل فيلم من أفلامه شخصية على حافة الانتحار. انتحار ترتكبه غالباً فتنجح وتفشل.

الخيال ينتصر مع سكوت فيتزجرالدفي الخمسين من عمره، يقع في حب امرأة ثلاثينية (كيت بلانشيت). وأمام تضاؤل جسده وتراجع عمره، تصبح العلاقة أمراً يحتمل الكثير من المصاعب والمفارقات.
في هذا الفيلم، يعود فينشر إلى نجمه المفضّل براد بيت الذي قدّم معه أهم أفلامه: «سبعة» و«نادي القتال» وتشارك بيت وبلانشيت كل من تيلدا سوينتون صاحبة أوسكار أفضل دور ثانٍ العام الماضي عن دورها في «مايكل كلايتون» إضافة إلى مشاركة جوليا أورموند.
استكمالاً للخيال، فإنّ فيلم «موعد مع راما» مشروع فينشر للعام المقبل يأخذه هذه المرة إلى الخيال العلمي ومع عرّاب هذا النمط الفني آرثر كلارك. إذ تحكي رواية كلارك المأخوذ عنها الفيلم عن مجموعة من رواد الفضاء يُرسلون في مهمة لاكتشاف الشمس. المتوافر عن هذا الفيلم قليل، فعدا تأكيد مورغان فريمان مشاركته فيه، يبقى السؤال عما إذا كان فينشر يطمح إلى أن يفعل ما فعله ستانلي كوبريك برواية كلارك «2001، أوديسة الفضاء». ربما!

«أنا لستُ هناك»... بحثاً عن بوب ديلان المفقود{أنا لست هناك} الذي أخرجه تود هينس، يأتي بعد فيلم مارتن سكورسيزي الأخير No Direction Home في عملية تصفية حسابات إبداعية قام بها المخرج مع ذاكرته الموسيقية التي يسكنها ديلان. وهناك شريط Don’t Look Back الذي قارب فيه دي بنيكر عام 1967 ديلان بوصفه أيقونة الستينيات ونبي التمرد والفنّ. مع {أنا لست هناك}، تحضر المقاربة الروائية، وتغدو سيرة ديلان متناثرةً، محمولةً بما يدور حوله، وبما يتبعه من أطياف وانعطافات حادة في حياته، إلى درجة تتقاسمه شخصيات لا رابط بينها إلا القلق والتمرد. فهو الفتى الزنجي ماركوس (كارل فرانكلين) الذي يعزف البلوز، ويتمنطق بحكمة أكبر من عمره، لنكتشف بأنّه هارب من إصلاحية. والشخصية الثانية مغن اسمه جاك (كريستيان بيل) مسكون بصراعات عميقة، واشمئزاز من كل ما يحيط به من غباء، ما يجعله عرضةً لارتكاب حماقات كبيرة. الثالث هو روبي (هيث ليدجر) النجم الهوليوودي الملاحق من وسائل الإعلام التي تتلصّص على حياته وخياناته الزوجية.
الشخصية الرابعة (كيت بلانشيت) مغن يخون عشاقه بالانتقال من موسيقى الـ{فولك} إلى {الروك}. بينما جسّد خامسة الشخصيات ريتشارد غير ويؤدي دور ممثل بين أوائل المهاجرين إلى أميركا، والحياة الرعوية التي هيمنت على تلك المرحلة، عبر صراعه مع أفكار المهاجرين الطهرانية المتطرّفة... وصولاً إلى ديلان نفسه (بن ويشو) في حوار يستغرق كل الفيلم، عن مسيرته الفنية وآرائه الفلسفية. ثم نصل إلى الشخصية الأخيرة التي تكون عبر التحوّل الذي يعصف بجاك المغني المتمرّد (كريستيان بيل مرة أخرى) وعثوره على الخلاص في الكنيسة والدين المسيحي، وتحوّله من مغن ثوري إلى مؤدّ لأغان تمجّد الله.
إن كانت الشخصيات المذكورة تطمح لتغطّي التغيرات التي عصفت بحياة ديلان من عمر الحادية عشرة حتّى الخمسين، فإن تكوينها يتخطّى حياته إلى ما يرمز إليه. وما حمله فنّه من تأريخ جمالي للحياة الأميركية، مع قدرته العجيبة على التحرك في الحاضر والماضي ـــــ وربما المستقبل ـــــ كونه سيبقى عرضةً لتنقل أبدي شخصياً وفكرياً. حتى إنّه يمكن الاتكاء على عنوان الفيلم المأخوذ عن أغنيته {أنا لست هناك}، كما لو أنه في النهاية غير موجود في أيّ من الشخصيات، وموجود فيها معاً.


I'm Not There ــــ {أمبير دون} (01/792123)، {أمبير إسباس} (09/212516)، {أمبير غالاكسي} (01/544051)، {أمبير سوديكو} (01/616707)