عرض يتيم في بيروت للفيلم الذي أثار الانتباه في «مهرجان كان» قبل عامين... ولم يجد حتى الآن طريقه إلى العرض التجاري في بلده. اللبنانية دانيال عربيد في متاهات الهوية والعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب
علي زراقط
«رجل ضائع» الفيلم الطويل الثاني لدانيال عربيد (1970) لم يجد بعد طريقه إلى الصالات التجارية في لبنان، لكنّ الجمهور تمكّن من مشاهدته في بيروت، من خلال برنامج «أسبوعي المخرجين» الذي استضافته أخيراً «متروبوليس». سمعنا عن الفيلم كثيراً لدى عرضه في «مهرجان كان» 2007، ولعلّه من المعيب على السينما اللبنانية والقيّمين عليها ألا يعرض فيلم في صالات بلاده، بحجّة أنّه يدور حول موضوع إباحي أو إيروتيكي.
«رجل ضائع» الذي يعلن عن نضوج سينمائي لدى هذه المخرجة اللبنانية، يتناول نظرة عربيد إلى العلاقة بين الشرق والغرب من خلال شخصيّتين ذكوريّتين تربطهما علاقة صداقة، ويكونان رفيقين في رحلة ضياعهما المشتركة. يتناول الشريط قصة رجل ضائع يُدعى فؤاد (الكسندر صديق)، نراه في بداية الفيلم يركض في شوارع بيروت عام 1985 هرباً من ذاكرة الحرب الأهلية وأشباحها. لا نعلم وجهته. إنّه يعدو فقط. ثم نراه مجدداً بعد عشرين عاماً في أحد الحقول شمال سوريا، يتعارك مع المسؤول عنه الذي يجرحه بالسكين فيهرب. يستقلّ تاكسي ويرحل نحو الأردن. يلتقي في سيارة أجرة بامرأة يداعبها بصمت، ثم يلحقها إلى حمام النساء على الحدود السورية ــــ الأردنية، هكذا، يرصده مصوّر فوتوغرافي فرنسي يُدعى توماس (ملفيل بوبو) لتبدأ قصة صداقة بين الاثنين.
المصوّر الفرنسي يتجوّل بين البلاد العربية سعياً وراء صور ذات فحوى إيروتيكي، تسجّل يوميّاته مع النساء في بلاد ونساء غريبات عنه. ينام مع النساء ويلتقط معهنّ صوراً خلال ممارسة الحبّ. صور قاسية وعنيفة، تحمل من الكبت والإخفاء أكثر مما تحمل من الإباحة والعرض. هي صور متلصّصة إلى أجساد النساء العربيات. يبدو المصور الفرنسي أيضاً كأنه يهرب من أمر ما، يسعى خلف الصور لإخفاء هروبه. هو أيضاً رجل ضائع.
يحمل الفيلم الكثير من المفاجآت، بالنسبة إلى جمهور لبناني يشاهد شريطاً لبنانياً يعرض الأجساد العارية كموضوع. الأجساد في هذا الفيلم لا تمارس الجنس، بل تتلقّفه وتتلقّاه. الأجساد لا تجلس أمام الكاميرا لالتقاط الصور، بل تحل عليها الكاميرا حلولاً. هذه المعالجة الملتبسة للجسد، تنطوي على مقاربة المخرجة لنظرة المرأة العربية ــــ واللبنانية تحديداً ــــ إلى عريها. هذا العري هو كناية عن «حريتها» المستلبة. لا خيار أمام المرأة، هنا، إلا أن تكون عارية أمام كاميرا المصور. تبدو المرأة أيضاً في الفيلم بلا وجه. ونلاحظ ذلك حين تخبئ النساء وجوههنّ خلال التقاط الصور. فهنّ أجساد وعري فقط. وجه المرأة يختفي عندما ينكشف جسدها الاجتماعي... كأنما الجسد هو نقيض الوجه، كأنّما الوجه غريب عن جسده ومتبرّئ منه.
لا يبدو المصوّر مهتماً لصوره، أو مكترثاً للطريقة التي تظهر بها الأجساد. هو فقط يسجّل في وثيقة لا ريب في صدقيّتها بأنّه ضاجع أولئك النساء. هو يبحث في وجوههنّ عن وجهه، وفي أجسادهن عن جسد حبيبة هاربة. أجساد بلا وجوه، ووجوه بلا أجساد. وحده فؤاد الذي أمامه، لا هوية له، الرجل اللبناني الضائع لا يملك من الحياة إلا جسده ووجهه. توماس يجد في وجه الرجل الضائع الوجه الذي يبحث عنه، يجد فيه نفسه. حتى إنّه يجد فيه حكاياتهما المتشابهة.
لا شك في أنّ هذا هو أهم ما في الفيلم، ما يجعله شريطاً جميلاً، خاطفاً، ومثيراً للتساؤلات. إلا أنّ أموراً كثيرة تدخل إليه لتربكه، من بينها حكاية المفقودين اللبنانيين التي تدخل من دون أي عمق. والعائلة التي يعود إليها فؤاد، تبدو هاربة من «معارك حب» (باكورة دانيال عربيد الروائيّة الطويلة)، وتأتي الحوارات ناقصة، مفبركة، لا تنضح بالمعنى الحقيقي. ومهما يكن من أمر، نتمنّى أن يجد الفيلم طريقه إلى الصالات اللبنانية من دون أن يخضع لمقصّ الرقيب.