تجارب نسائيّة تفتّحت، أو ترسّخت، في غزّة خلال العقد الأخير، تجمع بينها خصوصيّات المرحلة السياسيّة، ورغبة في إعلان حضور خاص مستقلّ من خلال الشعر. قصيدة مغمّسة بالجرأة، قد تلامس حدود التمرّد... لكنّ التجريد يبقى المهرب الوحيد من رقابة المجتمع

غزّة ــــ نصر جميل شعث
المشهد الشعري غنيّ في غزة ويضمّ أصواتاً نسائية تنتمي زمنيّاً إلى مرحلة بدأت مع قدوم السلطة الفلسطينية إلى القطاع، بعد توقيع أوسلو، فأضافت متغيّرات جديدة. عموماً، تلتقي الشاعرة هنا مع ما يكتب على امتداد رقعة العالم العربي، في الأدب النسائي، كالرغبة في التحرّر من الكبت بأساليب تجنح إلى الرومانسية... وتهرب إلى التجريد خوفاً من رقابة المجتمع والدين، أو تُظهر التمرّد بلغة تشقّ عباءة الجسد بكلام جاهز، قد يصل حدود الابتذال الفني.
تتّسم تجربة الشابة صباح القلازين التي أصدرت ديوانين ({اعترافات متوهجة} و{نوافذ}) بأنّها ذات موضوعات وتقنيات بسيطة فنياً. قصائدها كلّها تطلّ على مشهد رومانسي لا تغادره... وتطرح شكوى الجسد: {الباب يطرق في المساء/ نار الحكاية تشتعلُ}. ونلمس ابتعاد القلازين عن التجسيد، منحازة للتجريد. الأمر الذي يستحق الإدانة. فاستخدام لغة التجريد واللغة الرمزية اليقظة عند القلازين يكشف عن ذات محافظة وملتزمة، تناكفها رغبة مقابلة تدعو إلى التمرّد والخروج. ما يتجلى في {نوافذ} هو شغف أو شبق يركن إلى التجريد: {أقدّ معطف الانتظار...}.
على مقلب آخر، تقبل سمية السوسي التي كانت بداياتها مع ديوان {أوّل رشفة من صدر البحر} على تجسيد ممارسة الحبّ في سيرة تبدأ بالشَقّ، أو الانشقاق على المكان، وتنتهي بالبرود، في وصفٍ جاهز لعملية غريزية سريعة وجاهزة: {أشقّ ثوب المكان كخطيئة أولى/ ترتجف اللعنة/ تنطفئ المشاعل في لهفتي/ يغلفني البرود}. وهنا نلاحظ تضافر عناوين الشاعرتين في بناء دلالة الكبت والرغبة في الخروج.
وفي الغالب، فإنّ إقبال القلازين على التجريد نابع من التزام أخلاقي ـــــ على نحو اجتماعي ورومانسي ـــــ يسمح بالحلم، لكنّه يقمع كل رغبة تجنح إلى الواقع: {أريد شالاً من نجوم/ وقميصاً من مطر/ أريد بحراً من بنفسج/ يضيئه لنا ألف قمر/ أريد منك غابة من لازورد/ ومقلتين من سهر/ وبعدها خذني وطِرْ}. ثم تسأل: {مَن يكسر هذا القيد المطبق حول الجسد}. هنا، بالضبط، يتعاظم دور سمية السوسي لتجيب بدورها عن السؤال في كل امرأة مكبوتة، مُفرِدةً مشروع كتابتها الخاصة لمواجهة الذعر بالفضيحة. إنّها نموذج مَحلّي، غير مثالي، لجسدٍ تخلّص من الذعر ويتشمّس بشكل مثير على سطح اللغة. وهنا تفارق صاحبة {أوّل رشفة من صدر البحر} صباح القلازين؛ لأنّ الأخيرة لا تغادر الرومانسية؛ في حين تركب السوسي البحرَ حيث ترشف أوّل رشفاتها الجريئة.
أما فاتنة الغرة التي أصدرت {ما زال بحر بيننا} و{امرأة مشاغبة جدّاً}، وتعدّ لإصدار {ليس إلاي}... فتسعى إلى اجتذاب المتلقّي باختيارها عنواناً ملفتاً لديوانها الثاني. الشغب هنا يسلك مساراً إلى طفولة المرأة، هناك تنهض وتشاكس بعفوية. ولكن يردّها، من جديد، المسار ذاته إلى هنا. حيث شغبها حالات من الصخب والضجة داخلها. هي تقول إنّ سبب الصخب ناتجٌ من امتصاصها لـ{هدير السيارات}. لكنّها تتحدّث عن {فوضاها التي تخصّها وحدها، وعن جنون فيها يزعج اللغات المنقرضة}، فمثل هذا القول كناية عن بلاغة الشغب الذي يسمع القاصي قبل الداني.
ولأنّ الأخَ والحبيبَ لا يأتيان في ديوانها، ستحمل فاتنة الغرة السيف لتثأر به. وهنا ستبدو {امرأة شرسة جداً} تفعل في قصيدة {شرف} ما فعلته هند بنت عتبة: {تأكل كبدهم نيّاً}. فندركُ أنّها حالة من الهذيان الذي يخلط شرف الوطن ونخوة الرجال، بكبتِ المرأة وحاجتها إلى الحبيب الذي إن لم يأتِ، ستمارسُ حبها له وانتقامها منه على الورق، وتفترس في معيته الرجال. وليس بعيداً عن مشهد الافتراس هذا، نجدها في القصيدة الهاذية ذاتها، تنقلب زليخة، وتقول لمن شغفها حبّاً في المخيلة: {هيت لك}. ويتضح شغفها وشبقها أكثر في قصيدة {امرأة مشاغبة جداً}: {عندما قلت لا أحبّ الرجال قطعت النسوة عينيّ/ وعندما قلت أحبهم اقتلعن لساني/ أي ضجّة تلك التي أثيرها/ أي فوضى داخلي، وأي فوضى تلك التي تعوي خارج العباءة}.