عودة الكاتبة المُُرّة، المدرّبة على الحزن والكآبة

واظبت على تدوين مذكراتها في كل الظروف، فتركت وراءها 26 دفتراً لم تنشر ــ في لغتها الأصليّة ــ إلا أواسط الخمسينيات، أي بعد سنوات عدّة على انتحارها. صدور المذكرات (1915ــ1941) باللغة الفرنسيّة، مناسبة لاستعادة تلك الكاتبة المعذّبة التي حملت ضجرها الوجودي إلى القبر، ولم تشف يوماً من آلام الماضي وتصدعاته

نوال العلي
كل ما تكتبه هذه المرأة يؤلم، قلمها موحش. حتى حين تصف الجمال، تجعله مرعباً «جميلة شفة البحر الصافية، عندما تلعق الشاطئ المتوحش». اليوميات التي بدأت فيرجينيا وولف (1882 ــــ 1941) كتابتها عشية رأس السنة من عام 1915، أعرضت عنها قبل انتحارها بأربعة أشهر فقط، تاركةً وراءها 26 دفتراً بخطّ يدها. أصدرها زوجها ليونارد وولف في لندن عام 1953 لأوّل مرّة، وها هي تصدر بالفرنسية «مذكّرات فيرجينيا وولف 1915ـــــ1941» كواحدٍ من أهمّ أعمالها، أو هكذا يصفها في المقدّمة كوينتن بيل ابن شقيقتها فانيسا.
واصلت وولف تدوين يوميّاتها في أحلك الظروف. كانت تنقطع أحياناً لأسبوع أو اثنين ثم تعود، مصرّة على الاستمرار؛ حتى لو اشتدّ مرضها العصبي، حتى والملاريا تهدّد زوجها بالموت. كتبت تحت القصف في الحرب، وهي تبيع منزلها وتتنقل من بيتٍ إلى آخر، ولم تتردد أثناء كتابة رواياتها كذلك في البقاء لصيقةً بالرّصد اليوميّ لحياةٍ غادرت كضيفٍٍ ثقيل الظّل.
لم تتوانَ صاحبة «الأمواج» عن السخريّة من كل شيء، تنتقد أقرب الأصدقاء، تستهزئ بقسوةٍ من الجميع، وتعلن أفكارها الشريرة أيضاًً. ما همّ؟ فتلك النسويّة الرائدة تتعرّى. لم يكن المتلقّي اللصيق بالمبدع كظلّه موجوداً وهي تكتب مذكّراتها، ربما لذلك حرصت عليها؛ متحررةً من سطوة الأدب، تاركة فيرجينيا وحيدةً مع لذة الأنا حين تكون هي الآخر.
كأنّ هذه اليوميات آلة الزمن، من خلالها تعود الحياة إلى الحدوث، ويُبتكر الواقع ليعاد إنتاجه من جديد. يستطيع القارئ أن يستخدم عاطفة وولف العميقة والبطيئة لتأمّل تلك الأيام فعلاً، كآبتها تتمثّل في صورة بِنيَة انفعالية مدرّبة على الحزن، حتى ليبدو أنّ صاحبة «السنوات» (1937) تحرص يومياً على جعل اكتئابها ومزاجها المريض حقيقةً ثابتةً ومصيريةً ستقودها إلى النهر الذي أغرقت نفسها فيه بعدما ملأت جيوبها بالحجارة وكتبت رسالة وداع إلى زوجها تقول فيها «أشعر بأنّ الجنون ينتابني من جديد ولا شفاء هذه المرّة. بدأت أسمع أصواتاً وأعجز عن التركيز. لذلك، سأقوم بما يبدو الأنسب والأفضل».
الكاتبة التي برز نجمها بين الحربين العالميتين ومثّلت وجهاً بارزاً من «مجموعة بلومزبوري» الأدبيّة التي ضمّت روائيين ومفكّرين محدّثين في إنكلترا، كتبت في المجموعة الأولى من يومياتها عن سنوات الحرب العالمية الأولى. هكذا، نراها تسخر منها على عكس كثير من أبناء طبقتها، وتروي أجواء الإحباط والصراع وتتحدث عن صدور أولى رواياتها The Voyage Out في عام 1915 وكتابة عملها الثاني «ليلاً نهاراً» (1919).
في هذه الصفحات، نجدها تطلق على عامة الناس صفة «حيوانات». وعن إحدى المجازر الشهيرة إبان الحرب، تقول: «ضحكت في سرّي على أعداد الأرمن، كيف يمكن أحداً أن يكترث إن كانوا أربعة آلاف أو أربعمئة ألف؟». وكانت تشير إلى زوجها أحياناً بـ«اليهودي المفلس». وحين تأتي شقيقته لزيارتهما، تكتب في مذكراتها: «لا أحب الصوت اليهودي، لا أحب الضحك اليهودي». وفي مجموعة عنونتها «وصف مقتضب للماضي»، تتذكر وولف تفاصيل فقدانها لوالدتها وهي لم تتجاوز الثالثة عشرة... وتستعيد قبلتها الأخيرة كأنها تعيش ظروف وفاتها مرة أخرى «حين قبّلتها، كان الأمر أشبه بتقبيل حديد بارد. كلما لمست حديداً بارداً يعود الإحساس إليّ، الإحساس بوجه أمي».
في هذه الفترة الأخيرة من حياة وولف، كانت ذكريات طفولتها تزداد قوة، فكلما تقدمت في العمر استعاد الماضي بريقه وتجلّى أمامها مكتملاً بآلامه وتصدعاته، ربما لذلك تستغرق في الحديث عن ستيلا أختها غير الشقيقة التي حلت محل والدتها ثم ماتت بعدها بعامين، ليزداد الشعور بالأسى والفقدان والضياع الذي لن تشفى منه فيرجينيا أبداً. وتسترجع كذلك كيف تعرضت هي وشقيقتها فانيسا للتحرّش الجنسي على يد أخويها غير الشقيقين جيرالد وجورج، ثم وفاة والدها. ذكريات كثيرة كانت كفيلة بأن تسبب انهياراً عصبياً بين فترة وأخرى، وخصوصاً أنّ سليلة العائلة الأرستقراطية التي تشرّبت التربية الفيكتورية حتى العظم، عاشت حياتها في مكتبة والدها، نظراً إلى ضعف بنيتها ومرضها الذي حال دون ارتيادها المدرسة.
حمّلت وولف يومياتها، المكتوبة بحساسيّة أدبية شفافة، ضجراً وجودياً وانطباعات قاسية، كتبت عن صالون الحلاقة وبائع التحف، في الشارع وحفلة الشاي. إنها رواية يومية عبر ملاحظاتٍ صغيرةٍ تفاجئ من يقرأها، فها هي كاتبة «حجرة يعقوب» تصف إليوت بـالـ«قويّ كأنه مقدود من خشب... لكنه يوسّخ كثيراً حين يأكل». وتبدو شريرة أحياناً، إذ لا تتعاطف مع صديقها المريض بالبواسير «رغم الرعب الذي يصيبني لدى التفكير في الألم الذي يكابده، لا يمكنني منع نفسي من الضحك».
وعلى عكس ما تبدو عليه وولف مؤلفة الخمسين كتاباً، تفسح للمرأة في يومياتها أن تظهر نفسها متذبذبة الأحاسيس مذعورة ومزاجية، حتى في ما يتعلق بانطباعاتها عن نفسها: «ممارسة الحب، بعد خمسة وعشرين عاماً لا يمكنني بلوغها بهذه الهيئة غير الجذابة، أترين أنها نعمة كبيرة أن يكون المرء مرغوباً فيه، النعمة التي لم أحظ بها أبداً».
في الدفتر الأخير من يومياتها، كانت وولف قد أنجزت عمليها «إلى بيت الضوء» و«مدام دالوي»، وقد صارت تشبه هذه الأخيرة؛ امرأة في الخمسين بسمعة عظيمة وحياة منمّطة وبمزاجها الانتحاري تدوّن في دفترها: «أنا بشعة جداً، كبيرة جداً». وفي موضع آخر، تتحدث عن شخصية مدام دالوي «إنها تتركني أغرق بعمق في أكثر طبقات ذهني ثراءً. يمكنني أن أكتب وأكتب والكتابة هي أسعد إحساس في العالم». ويسجل هذا المجلد الأخير من يومياتها (ظهرت في خمسة مجلدات) حالة من اليأس وفقدان الثقة بكل شيء عام وخاص، كأنّ كل شيء ممتع من ولائم وحفلات وأصحاب لم يعد له قيمة، وكثيراً ما كانت تقسو ولا تملك الحد الأدنى من الشفقة على نفسها.
لدى فيرجينيا إحساسٌ متناقضٌ بكتابة السِّير والمذكرات، أو «كتابة الحياة» كما تدعوها. فمرة ترى أنّ «الدهشة التي تتحقق من قراءة السير لا تقاوم»، ومرة ترى أنها نوع من «الفن غير النقي». وإن كانت وولف قد تحدثت كثيراً عن الفجوة بين الذات الخارجية والذّات السرية لدى المرأة، فقد حاولت تجسيدها من خلال كتابة يوميات أشبه ما تكون برواية متقطّعة.

شقيقة شكسبير



تفترض وولف في عملها الشهير «غرفة تخص المرء» أنّ لشكسبير شقيقةً اسمها جوديث تملك موهبته الشعرية نفسها، وتتساءل كيف كان المجتمع الإنكليزي في العصر الإليزابيثي قد استقبلها؟ وتذهب وولف إلى أنّه كي تتمكن المرأة من الإبداع والكتابة، فلا بدّ من أن يكون دخلها 500 جنيه في السنة، وأن تملك غرفة تخصها وحدها، ولها الحرية في ألا تستجيب لمتطلبات أفراد العائلة، وهي أمور قلما تتوافر للمرأة حتى يومنا هذا.
وتذكر هذا العمل تحديداً في يومياتها سنة 1929 «أتوقع أنني لن أتلقى انتقاداً، إلا ذلك النوع المراوغ الهزلي...ستكون الصحافة طيبة ومأخوذة بسحر الكتاب وبريقه، قد يهاجمني بعضهم كنسوية متفلسفة.. ولا بد من أن رسائل كثيرة من شابات ستصلني، أخشى أنّني لن آخذها على محمل الجد».
وفي الواقع، كثيراً ما حكت وولف عن الكتابة، مقالها المطول بعنوان «النساء والكتابة» لم ينشر حتى عام 1979. وفي عملها «ثلاثة جنيهات» تبدأ برسالة من رجل إلى امرأة يسألها: «برأيك، هل يمكن أن نمنع الحرب؟»، ثم تناقش من خلال تجاوب الاثنين مع الفكرة، الاختلاف في تعليم المرأة (بدأ منذ 60 عاماً) والرجل (بدأ منذ 600 عام)، وتنتهي بالدعوة إلى صرف ثلاثة جنيهات، الأول على تأسيس كلية للمرأة، والثاني لتدريس البنات، والثالث لا بد من أن يذهب إلى حماية الحرية الثقافية والفكرية.
الانشغال بوولف الكاتبة لم يفارقها، ففي 1928 تسأل نفسها سؤالاً يعرفه قارئ أعمالها جيداً «ما هو موقفي الخاص من الداخل والخارج؟ أعتقد أنّ نوعاً من التساهل والتجاوز سيكون جيداً. خطرت لي فكرة الآن؛ أريد أن أشبع كل ذرة... أن أعطي اللحظة كياناً، مهما كان مضمونها.»
وحين تمعن في ذاتها المبدعة، تفكّر بقدرتها الشخصية على الكتابة بـ«تبجيل» كأنّها شيء لا يصدق يخص شخصاً آخر، ولن يكون لها أن تستمتع به أبداً.