أحيت بيروت أربعين الشاعر الكبير، بمبادرة من «الحملة الأهلية لإحياء الذكرى الستين للنكبة/ لبنان» و«عائدون». الندوة التي أدارها سماح إدريس، وشارك فيها محمد دكروب وفيصل درّاج وحسن العبدالله، خيّم عليها ثالوث الشاعر ــ القصيدة ــ القضيّة
سناء الخوري
«انتصرت القصيدة وغدا درويش شاعراً عالمياً، ولم تنتصر القضيّة التي دافعت عنها القصيدة»، قال فيصل درّاج في ذكرى الـ40 لرحيل محمود درويش. في «مسرح المدينة»، أوّل من أمس، التقى محبّو الشاعر الراحل مع درّاج ومحمد دكروب وحسن العبدالله، في ندوة أدارها الكاتب وناشر «الآداب» سماح إدريس بعنوان «40 يوماً في حضرة الغياب».
ثلاثيّة الشاعر ـــ القصيدة ـــ القضيّة، كانت محور الكلام... فإذا بدرويش بعد رحيله، لا يزال أسير تلك الإشكاليّة بين الشعر والخطاب السياسي، بين الشاعر والنبي والقائد والدليل. وبالفعل، افتتح سماح إدريس الندوة متسائلاً إلى «أي حدّ نجح الشاعر المثقف في توظيف السلطة لمصلحة شعره ولمصلحة صورة المثقّف الذي يمثّل نبض الشارع والحلم الاستراتيجي البعيد». فجاءت الإجابة من المتكلمين الثلاثة لتُعيد سرد سيرته وتوازيها مع تطوّر لغته الشعريّة بإيقاعها ومواضيعها وصورها، ملازمةً بينها وبين نضاله السياسي.
في البداية، وضع فيصل درّاج مسيرة الشاعر في ثلاث مراحل، وفق تطوّر وعيه السياسي: بعد نفيه الأوّل من فلسطين، كتب القصيدة الغاضبة ناسجاً علاقته مع قارئ غاضب، لم يرد أن يحدّثه عن الحبّ. ثم أصبح أيقونة الشاعر الرومنسي أو الشاعر النبي الذي يرى ما لا يراه غيره، ويمثّل «الشعب والأرض والمستقبل»، فهو حين غادر فلسطين، أراد أن يبرهن أنّها معه أينما حلّ. أمّا في المرحلة الأخيرة، فأدرك أنّ فكرة الشاعر الرومنسي فكرة لاهوتيّة عاجزة، وخاصةً بعد الخروج من بيروت حين انتقل إلى مستوى الشكّ المطلق.
تناول الشاعر حسن العبدالله ذلك «الإيقاع السماوي» الذي خلق قصيدة درويش، إذ كان «آخر شاعر غنائي عربي حقيقي...». و«كان وحيداً هو وشعره منزعجاً من غياب منافسين حقيقيين له على الساحة». وتحدّث محمّد دكروب، كناقد وكمناضل سياسي رافق مرحلة حصار بيروت التي يسردها الشاعر في «ذاكرة النسيان»، فكان يتحدّث عن النثر في شعر درويش كمن يستعيد رؤية تلك المشاهد أمامه، ويتذكّر مع الشاعر وجع المدينة. ركّز دكروب على نقل الشاعر لحالة القوى الفلسطينيّة المقاومة وعلى العمق التراجيدي لشعور هذه القوى بقرب الخروج من بيروت إلى مصير مجهول، مستغرباً في المقابل غياب صورة المقاومين اللبنانيين ــــ في القوى المشتركة أو خلف المتاريس ـــ مفسراً ذلك الغياب كنتيجة لتصوير درويش لما رآه فقط.
لكنّ دكروب وجد عزاءه عن غياب المقاومة اللبنانيّة في «ذاكرة النسيان» عندما قرأ لمحمود درويش في «حيرة العائد» تعالوا «نصفّق للبنان الجميل، نصفّق له بلا تروية ولا تأويل... لأنه انتصر على خرافته، على ضعفه الفولكلوري المراوغ وانتصر على أسطورة الاحتلال الإسرائيلي... ولأنّه أحيا في مرآة الاحتلال تشوّهاً في صورة الذات الإسرائيليّة عن ذاتها».
وقال دكروب إنّ الشاعر مات مرتين، في المرّة الأولى عاد من موته الأوّل المفاجئ بعد عمليّة القلب المفتوح ليكتب عن ذلك الموت الأبيض، وموته الثاني ذلك الذي يحيون أربعينه. وأضاف أنّه من المؤكد أنّ موتاً ثالثاً لن يأتي إلى درويش لأن نداءه الأعمق «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» سيبقى يتردد ويذكّر بذلك الذي مضى ولا يزال شغوفاً بالحياة. كلام تأبيني، كلام نظري في شرح أبعاد الشعر، شكرٌ للراحل لأنّه مرّ في عصر الهزائم، كلّ ذلك جميل، لكنّه لم يعفنا من الشعور بأننا نقف فعلاً في حضرة ذلك الغياب الثقيل، الذي لن يملأ فراغه شيء في زمن الغيابات الكبيرة التي أفرغت الساحة الثقافيّة الفلسطينية والعربيّة من أكبر رموزها.
مات درويش شاعراً منفيّاً، فهل سيبقى الشتات والمنفى حال الشعب الفلسطيني؟ هذا ما أحال إليه سماح إدريس حين سأل في بداية الندوة، عن معنى «حضارتنا ما دمنا نرضى أن يبقى الشعب الفلسطيني، شعب محمود درويش وغسان كنفاني وناجي العلي، أسير عقليّة رسميّة عنصريّة وجاهلة، تمنعه من العيش الكريم حتّى عودته عزيزاً كريماً ومقاومًا إلى أرضه».