حسين بن حمزةفي مجموعته السادسة {دع الموتى يدفنون موتاهم} (دار نينوى ـــــ دمشق)، يعيدنا الشاعر السوري إبراهيم الجرادي إلى مزاج إيقاعي كان يتجاور مع قصيدة النثر التي شهدت رواجاً أوسع في سوريا أواخر السبعينيات، ويتعايش معها. كان شعراء التفعيلة قلّة. لكنّ قصيدتهم كانت حاضرة بطريقة ما. لعلّ الجرادي كان أكثر أقرانه احتكاكاً بالنثر. كان يكتب ببلاغة متينة وجزالة فصيحة. وكان قادراً ــــ في الوقت نفسه ــــ على تجريب النثر وتطويعه وفق مخيّلته الخاصة. بل إنّه سعى إلى ابتكار نص شعري يجمع بين الوزن والنثر، ويتضمن صوراً فوتوغرافية ولوحات تشكيلية ورسوم كاريكاتور وفوتوكوبي عن رسائل شخصية.... قرّاء تلك الفترة ما زالوا يتذكرون باكورته الجريئة {أجزاء إبراهيم الجرادي المبعثرة} (1981) التي ذيَّلها بوصف {قصائد وهموم} كعنوان فرعي. ثم مجموعته الثانية {رجل يستحم بامرأة} (1983) وعنوانها الفرعي: {نصوص تشكيلية}. تلتهما مجموعة مشتركة مع إبراهيم الخليل بعنوان {موكب من رذاذ المودّة والشُّبُهات} (1986)، ممهورة بوصف {ريبورتاجات شعرية}. لا يحتاج القارئ إلى براهين إضافية لكي يلمس رغبة التجريب الفائحة بقوة وكثافة من هذه العناوين. المشكلة أنّ هذا التجريب كان شبه يتيم في مشهد شعري راح أصحابه يُديرون ظهورهم لكل ما هو موزون. الثمانينيون والتسعينيون انحازوا إلى النثر، بينما لم يسجل {نادي التفعيلة} منتسبين جدداً ومَهَرَة يمكن معادلة المشهد النثري بهم.
القصد من هذه الاستعادة التاريخية الموجزة هو الإشارة إلى صعوبة أن تجد مجموعة الجرادي الجديدة صدى لائقاً بها بين ما يُكتب من شعر راهن. من سخريات {التطور الشعري} أن تبدو قصائده منتمية إلى زمن سابق. أغلب التجارب الشعرية الشابة اليوم تعيش داخل إطار {القصيدة اليومية}. سيادة النثر، بل سيادة نوع محدد هو النثر اليومي يكاد يتحول إلى نموذج إرهابي.
تتضمن المجموعة ست قصائد تأخذنا إلى معجم آخر وتقنيات مختلفة: {كان عليّ أن أفصِّل الأشياء من أسمالها/ وأن أُهندس اكتئابي/ أن أرتضي البلا/ وأن أنام في ثيابي/ ضبعاً أليفاً خائراً كالورق المقوَّى/ شيخاً جليلاً نائماً في التقوى/ أن أعلن الخراب مسكني وبابي/ وأنسج البلوى وأن أصيح باليقين: ما بي؟}. هذه كتابة تنعطف بالقارئ إلى نبرة يقلّ مستخدموها إلى حدّ يمكن النظر إليهم كجماعة في طور الانقراض. رغم ذلك، ينجح إبراهيم الجرادي في جذب القارئ إلى منطقته، داعياً إياه إلى تذوّق جملة ذات هوية إيقاعية، لكنها قادرة على الإصغاء إلى متطلبات الشعر الذي تنجزه.
اللافت في هذه الجملة أنها تورِّط القارئ في {وصفة} كتابتها. يُكثر إبراهيم الجرادي من استدعاء مكوّنات القصيدة. يعثر على قافية أو صورة ثم يُدخلها في متن القصيدة: {إن الكناية جروٌ جميل/ سينبحُ، يوماً، على أهله}، يقول في قصيدة مهداة إلى محمود درويش.. ويضيف: {السلام: القصيدة نائمةٌ/ في فراش العدوِّ/ ومعفوَّةٌ من شروط الخيانة}. ثم: {السلام: دمٌ يترنّح من ثقل القافية}. هذا النوع من الممارسات يكشف عن حرية واسعة في تجوال الشاعر داخل معجمه الشخصي. يتربّص بصورة هنا واستعارة هناك. وغالباً ما يعود بصيدٍ مُرْضٍ.