مَن لا يعرفه يخال أنّه شيخ. صاحب الصوت القوي كان من رموز الطرب الأصيل، ثم غيّر نظرته إلى الوجود والله مطلع التسعينيات... وحوّل ارتجاله إلى الغناء والإنشاد. موعدنا معه الليلة في البلمند (شمال لبنان): حفلة رمضانيّة بامتياز!

بشير صفير
بينما تستمر «أماسي رمضانية» في مسرح «بابل» مع حفلة تقدّمها اليوم المغنية اللبنانية غادة شبير، تتجه الأنظار والآذان هذا المساء إلى الشمال الذي سيكون على موعد عند التاسعة والنصف مساءً مع أمسية رمضانية بامتياز، تنافس الحالة البيروتية فنياً وتتخطاها لناحية الهوية الدينية. وإذا كان الصوم والصلاة يعنيان المسلمين دون سواهم في هذا الشهر، فأمسية «آهات» للفنان الكبير عبد الكريم الشعّار مع فرقته والبطانة الصوفية المولوية هي بمثابة «فريضة» على من «أنعم الله» عليه بأذنين تقدّران الصوت الجميل تحت أي عنوانٍ صَدَح.
مَن لا يعرف عبد الكريم الشعّار قد يعتقد أنّه شيخ. ومَن يعرفه قد يعتقد أنّ صاحب الصوت ذي الطاقة اللامحدودة غيّر نظرته إلى الوجود والله مطلع التسعينيات وتبدلت رؤيته الفنية وتغيّرت معها رسالته... فراح «يكفِّر عن خطيئة» الغناء الدنيوي بالإنشاد الصوفي والتجويد القرآني. لكن في الحقيقة، عبد الكريم الشعّار لا هو هذا ولا ذاك... بل إنسان في منتهى البساطة والصدق: إنّه شقيق مفتي طرابلس، الشيخ مالك الشعّار الذي رعى المصالحة الطرابلسية الأخيرة. ولد من زواج مختلط (والدته مسيحية، اعتنقت الإسلام بعد وفاة زوجها، قبل خمسة أشهر من ولادة عبد الكريم الذي سُمّي على اسم والده)، ورأى في عدل الإسلام اشتراكيةً اجتماعيةً، هي في أساس نزعته اليسارية. كما يرى في الإسلام عظمةً ورسالة إنسانية يقوضّها كل مَن تزمّت في ممارسة إيمانه. يعبد الله من خلال الموسيقى، ويعرف أنّ الأداء الصوتي الديني (التجويد والإنشاد الصوفي) هو مدرسة في الغناء وذروة في ممارسته، وأن كل المطربين الكبار تتلمذوا فيها وصقلوا أصواتهم ومخارج الحروف عندهم من خلال التمرّس في تجويد النصوص القرآنية.
لا ينتهي الأمر عند الغناء، بل يمتد إلى الكلمة. الشعّار نسج علاقة مميزة مع الدين ونبيّه وخالقه. إذ يختار بعض نصوص الأناشيد والمدائح ويكتب بعضها الآخر. هذه العلاقة قد لا يقبَلها مَن كبّل الدين عقله وأسكن الخوف في نظرته إلى الله. فعبد الكريم يكتب حوارات مع الخالق ومع النبيّ محمد. «يعاتب» باحترام ويحترم من دون خوف، وقد يرتجل جملاً على المسرح وأمام الناس. إذ إنّ العفوية والصدق هما أشدّ دليل على الاحترام المطلق، كما في أيّ حوار ضمن علاقة سليمة لا ريب ولا مواربة فيها. والارتجال في الكلام لا يضاهي الارتجال في الغناء والإنشاد. إذ ينطلق الشعار من سموّ الجملة اللحنية الطربية التي تسقط من عُلى في لحظات التصوّف التي لا تنفصل عن تأثير الجمهور، المشارك الأساسي في صنع النغمة من خلال تفاعله. في هذا السياق، يخلق عبد الكريم الشعّار شعوراً دائماً بالثقة عند المستمع قوامه طاقة صوتية استثنائية فعلاً، تستشفها الأذن من الذبذبة الأولى.
في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، عُرِف عبد الكريم الشعّار بين كبار الأسماء التي صنعت الحالة الغنائية الطربية في لبنان. غنى كلاسيكيات الطرب، إضافة إلى أغنياته الخاصة التي رفضت أولاً وأخيراً النزعة التجارية والاستهلاك. أسّس في عام 1993 فرقةً درّبها وأشرف عليها فنياً، وقدم معها العديد من أمسيات الإنشاد الصوفي، آخرها يعود إلى نيسان (ابريل) 2006 بمناسبة ذكرى الحرب الأهلية. في حفلة مساء اليوم، ينشد الشعّار مع فرقته (كورس، إيقاعات، عود، قانون وبيانو)، يرافقه فتلاً درويشان مولويان من حلب (البطانة الصوفية المولوية)، لتحقيق نشوة قد تتردّد آهاتها حتى حلول رمضان المقبل.

9:30 مساء اليوم ــــ «أوديتوريوم الزاخم»، حرم جامعة البلمند (الكورة): 06/930250

الإفطار... السرّي

في منزله البيروتي، يستقبل عبد الكريم الشعّار زوّاره داخل عالمه الضيق في المساحة، اللامحدود في التواضع و... الموسيقى. ما أن تطأ عتبة منزله ـــ وقبل أن يتمّ التعارف حتّى ـــ يستقبلك بطقسه الأثير في الضيافة: تجويد قرآني للشيخ محمد عمران. يتكلم الشعّار بانفعال وحماسة وفكاهة، لكنه ينتقل إلى عالم آخر عندما يستدير نحو «أطنان» الروائع من طرب وتجويد، ليختار شيخاً آخر ينسيك ما سمعته للتو. تتوالى الاختيارات وتتكدّس معها الأنغام الشهيّة على المائدة الفنية. سبق كل ذلك صوت الأذان من الخارج، إنّها ساعة الإفطار. وهذا أجمل إفطار، أو... عشاءٍ سرّي.