قراءة جديدة لـ«النبي» تضاف إلى محاولات تعريب سابقة من يوسف الخال إلى ميخائيل نعيمة، مروراً بثروت عكاشة. لكنّ ترجمة سركون بولص لجبران تتميّز عن سابقاتها بهذا الحوار الذي تجسّده بين قريحتين شعريّتين
حسين السكاف
«هكذا أفكر، عندما ألتحمُ بنصٍّ عظيم وأحلم بتعريبه. تكون أولى المراحل في هذه العمليّة المعقّدة هي رؤية الشكل الكامل للقصيدة، جَسّ نوياها، فهمها فهماً كاملاً مقروناً بمعرفة الشاعر ومؤلفاته وزمانه وشخصيّته الشعرية بالمقارنة مع مجايليه من الشعراء... كلّما كانت المعرفة عميقةً، سهُل بناء الأواصر الوثيقة بين النصّين لاستيلاد النصّ الثالث».
بتلك الرؤية التي تحدّث عنها في أحد حواراته، أنجز الشاعر العراقي سركون بولص (1944 ـــ 2007) تعريب «النبي» لجبران خليل جبران الصادر أخيراً عن «دار الجمل»، قبل أشهر قليلة من وفاته. كأنّه يهدي لنا خلاصة تجربته في الترجمة التي بدأت منذ إقامته في بيروت عام 1969.
صحيح أنّ «النبي» يمكن أن يكون أشهر كتاب «عربي» من حيث عدد مترجميه. وصحيح أنّ ما من قارئ أو كاتب عربي استطاع الإفلات من تأثير جبران وأفكاره عموماً، إلا أنّنا نعرف أهمية هذا الكتاب وقيمته الشعرية... من هنا، نتلمس أهمية ترجمته من شاعر بوزن سركون بولص. فمن يعرف سركون، يعرف جيداً شغفه بنصوص جبران وأفكاره، تماماً كما يعرف شكل العلاقة التي ربطت هذا الشاعر الستيني بنصوص الألماني نيتشه وأفكاره. وهذا ما يدلنا على رابطة وثيقة ومهمة، تشي لنا بأهمية الترجمة هذه... يجتمع الرأي على أن «النبي» الذي صدر للمرة الأولى عام 1923 بالإنكليزية، يحاكي أسلوب نيتشه في كتابه «هكذا تكلّم زردشت». وهنا نذكر ما كتبه ثروت عكاشة عن الكتاب، إذ قال: «إذا كان جبران قد حاكى في كتابه «النبي» نيتشه في كتابه «هكذا تكلّم زردشت»، فقد حاكاه في الشكل لا في المضمون. فكما اتخذ نيتشه من زردشت وسيلة لإذاعة آرائه، كذلك اتخذ جبران من «المصطفى» في «النبي» وسيلةً للتعبير عن أفكاره واتجاهاته. وكما أجرى نيتشه على لسان زردشت حِكَماً وأمثالاً، كذلك أجرى جبران على لسان المصطفى سلسلة من العظات». والعلاقة بين جبران ونيتشه كانت دوماً محط اهتمام سركون بولص. لذا يجد القارئ في ترجمته «النبي» أنّه دخل بحرفية عالية إلى مضمون النص وعمقه.
ربما وجد بعضهم في ترجمات «النبي» المتعددة بعض الإساءة إلى النص، مع تأكيدنا أنّ هناك ترجمات رائعة ومهمة تربت عليها أجيال من المثقفين والكتاب... علماً بأنّ جبران الذي دأب على تحرير اللغة من قيودها وتجديد الأساليب اللغوية من دون الخروج على قواعد اللغة، أبدع هذا النص الذي يُعد بداية قصيدة النثر...
والآن، لنقرأ العبارة التالية مما جاءت به إحدى الترجمات: «غير أنّه ما هبط عن التلة حتى فاجأته كآبة صماء، فقال بقلبه: كيف أنصرف من هذه المدينة بسلام، وأسير بالبحر عن غير كآبة؟ كلا! إنني لن أبرح هذه الأرض حتى تسيل الدماء من جراح روحي». أما في ترجمة سركون بولص فجاء المقطع بالشكل التالي: «لكنه، بينما كان يهبط من التَّلّة، غلبته نوبَةٌ من الحزن، ففكر في قلبه: كيف يمكنني أن أُغادر بسلام دون أن أحزن؟ كلا، ليس بدون جُرحٍ ينغُر في الروح سأتركُ هذه المدينة». وفي مكان آخر نقرأ في ترجمة بولص: «الصوتُ لا يقدر أن يحمل معه اللسانَ، والشفاهَ التي منَحتهُ الأجنحة. عليه وحده أن يتقصّى الأثير. ووحيداً، من دون عشّه، سيطير النسرُ تلقاءَ الشمس». بينما نجد العبارة نفسها في ترجمة سبقت ترجمة بولص بسنوات تقول: «فإن الصوت لا يستطيع أن يحمل اللسان والشفتين اللواتي تسلحن بجناحيه، ولذلك فهو وحده يخترق حجب الفضاء. أجل، والنسر يا صاح لا يحمل عشه بل يطير وحده محلقاً في عنان السماء».
من هنا نجد أهمية أن يترجم شاعر لشاعر آخر، وخصوصاً إن كان الشاعر المترجم محبّاً للنص الذي بين يديه ومقدِّراً لمكانته. وهذا ما عرفناه من بين أفكار سركون بولص الذي أفصح عنه في أحد حواراته الصحافية: «الشعر لا يمكن أن يُتَرجم إلّا من قبل شاعر، وستكون الترجمة، بالتالي نوعاً من التواصل الحميم بين قريحتين شعريتين، إحداهما قد تكون من عصر آخر، يستبعثها الشاعرُ المترجِم من زمانها في الماضي إلى لغته هو، في الحاضر».
هكذا وتحت تأثير تلك الأفكار والهموم الشعرية، قدم لنا سركون بولص ترجمته الخاصة جداً لـ«النبي»... الكتاب الذي لم يتسنَّ له رؤيته.