أمل الأندريلعلّ أهميّة «مذكّرات ورسائل سعيد خليل نادر» تكمن في تأريخه لحقبة زمنية حاسمة في تاريخ لبنان عبر استعادة ذكريات شخصيّة عنها. الكتاب الذي قدّمت له غلاديس نادر بعد 7 سنوات على رحيل والدها، ليس مذكّرات ولا يعتمد أي تسلسل كرونولوجي. إنّه أقرب إلى «فلاش باك»، يستعيد فيه الكاتب ومضات وشذرات من ماضيه، فيدوّنها في دفتر ملاحظاته لتأتي ابنته وتجمعها في كتاب. إلا أنّ سعيد خليل نادر (1900 ــــ 2001) عايش كلّ التحوّلات التي عصفت بلبنان منذ الانتداب العثماني، فالفرنسي، والاستقلال، وصولاً إلى الحرب الأهلية. بل إنّه كان أحياناً في قلب هذه المفترقات بحكم مهنه المتعدّدة: من موظّف في لجنة إحصاء النفوس في المتن (1921) صار أستاذاً في جبل الدروز في سوريا (1927) ثم مفتّشاً في مديرية الأمن العام اللبناني (1942) فمراقباً في كازينو لبنان (1958) إثر قيام المشروع... والكاتب أيضاً ربطته صداقات بوجوه أدبية وسياسية لبنانية أمثال القاصّ سعيد تقي الدين ويوسف يزبك أول أمين عام للحزب الشيوعي في لبنان وسوريا. وعن كل هذه المحطّات، كتب نادر شيئاً، خلّدها بلمحة سريعة في دفتره.
يحكي الكاتب عن ولادته في البرازيل ثم عودته بالباخرة إلى لبنان عام 1908 واستقرار العائلة في الحدت حيث تعلّم في المعهد الأنطوني. وهناك، سيتعرّف إلى كميل شمعون الذي سيأتي للدراسة عام 1914 لدى دخول تركيا الحرب ضدّ «الحلفاء» وإقفال مدرسة «الفرير» في بيروت. يورد نادر معلومات مفصّلة عن الحدت وعائلاتها لينتقل إلى بيروت فجبل الدروز الذي يُحصي قراه بدقّة لا تناسب إلا موظّفاً في لجنة إحصاء نفوس! وما أن يبدأ القارئ يشعر بالضياع وسط هذه «الخلطة العجيبة»، حتى يقع على كنوز صغيرة مختبئة هنا وهناك، أماكن وأحداث شكّلت جزءاً من ماضي الكاتب... ومن ذاكرة بيروت أيضاً: من «مطبعة النفائس» التي كانت تصدر القصص البوليسية إلى المجاعة إبان الحرب العالمية. ووسط هذا الدفق العشوائي، تخترق وجوه المشهد، فاذا بنادر يتناول حيثيات صعود «نجم» الرئيس كميل شمعون وترخيصه لبناء «كازينو لبنان» في المعاملتين. وفي مكان آخر، سيورد كيف جاءه صديقه سعيد تقي الدين عام 1954 ليخبره باستخفاف أنّه سيموت قريباً بمرض القلب. وبالاستخفاف عينه، سيكتب نادر سطوراً تحفظ ذاكرة مكان، وتقدّم فسيفساء عن المجتمع اللبناني في حقبة أقلّ ما يقال فيها إنّها كانت صاخبة بالتحوّلات.