من ألفرد هيتشكوك إلى «جيمس بوند» و«فالكون كرست» و«بونانزا»صباح أيوب
لم يكن التلفزيون مجرّد وسيلة ترفيهية راجت في المجتمع الأميركي أواخر عشرينيات القرن الماضي. فقد استُخدم لغايات تسويقيّة تجارية ثم سياسية انتخابية، وأحياناً كجزء أساسي من بروباغندا حربيّة... وشكّل تصدير المنتجات الأميركية إعلامياً ورسم صورة المجتمع الأميركي أول هواجس خطط البث التلفزيوني آنذاك. وقد نجحت الولايات المتحدة ــــ إلى حدّ بعيد ــــ في التأثير في ثقافة المشاهدين حول العالم، وحتى بتكوينها أحياناً: هناك أجيال نشأت على سلسلة برامج طبعت ذاكرتهم الجماعية بأفكار موحّدة، ورسائل بقيت محفورة في اللاوعي عن الحلم الأميركي والحرّية والديمقراطية... فكيف يمكن الشاشة «الصغيرة» أن تُسهم في سرد تاريخ حافل؟ وكيف تبدّلت البرامج مع تبدّل العصور والحقبات والسياسات؟
كل هذه الأسئلة تحاول الإذاعة الفرنسية «راديو فرانس» الإجابة عنها في برنامج إذاعي بعنوان «60 عاماً من التاريخ الأميركي»، (إعداد بونوا لاغان وإيريك فيرا، وتنفيذ ليونيل كانتين)، ويمتدّ إلى 24 حلقة (بدأ في 22 تموز/ يوليو، ويستمر حتى 22 آب/ أغسطس). قرّر المسموع أن يحيّي المرئي إذاً، ويعرض تاريخاً من الصور والمشاهد والأفلام والمسلسلات التي أصبحت رموزاً لحقبات زمنيّة مختلفة. 30 دقيقة يومياً (عند الساعة 23:30)، يخصّصها «راديو فرانس» ليدغدغ ذاكرة مستمعيه، عبر التوقف عند عناوين البرامج القديمة وأسماء المخرجين والممثلين والكتّاب. كما يستضيف في كل حلقة محللين إعلاميين، ونقاداً ومؤرّخين...
هكذا، قدّمت الحلقة الأولى بعنوان «أصول المسلسلات التلفزيونية من الرواية إلى المسلسلات العاطفية»، مراجعة لنشأة بعض المحطات مثل NBC، ABC وCBS... وشرحت كيف تأثرت بدايات الدراما التلفزيونية بالمسلسلات الإذاعية، فعُدّ التلفزيون «وسيلة» جديدة لرواية القصص.
حقبتا الخمسينيات والستينيات عولجتا في 5 حلقات متتالية، أعادت المستمعين إلى مرحلة نشأة المسلسلات التي أسست لاحقاً مدارس الدراما التلفزيونية الأميركية. ولم يكن اختيار البرامج وتوقيت بثّها عفوياً في الولايات المتحدة. بعد الحرب العالمية الثانية، كان المجتمع الأميركي بحاجة إلى التماهي مع شخصيات «تحميه» من مظاهر العنف المستشري في تلك الحقبة: «الشرطي المخلّص والنزيه»، و«التحرّي الذكي»، و«البطل الخارق»... وهذا بالفعل ما قُدّم. بوليسياً، سطع نجم المخرج ألفرد هيتشكوك مع «ألفرد هيتشكوك يقدّم»، و«ساعة مع ألفرد هيتشكوك» التي أدخلت عنصري الإثارة والتشويق إلى المسلسلات. وظهرت أيضاً شخصية «التحرّي» (مثل «كاب شو» و«دراغنت»). أما نموذج «راعي البقر» Cow Boy ــــ بات يسمى لاحقاً بنمط الـwestern ــــ فقد جسّد البطل الجامح الذي يدافع عن حقوق الفقراء والمقهورين («Gunsmoke»، الذي امتدت حلقاته على مدى عشرين سنة (1955 ــــ 1975)، و«مطلوب حيّاً أو ميتاً» (1958) مع ستيف مكوين).
في الخمسينيات أيضاً، ولد الـ«سيت كوم» مع «أحبّ لوسي» (1951 ــــ 1957) الذي لبّى أيضاً رغبة الأميركيين في انتقاد ظواهر مجتمعهم بأسلوب ساخر. وفي عزّ الستينيات، وفي خضمّ الحرب الباردة، تكثّفت ظاهرة «الجاسوس»، على غرار سلسلة «جيمس بوند» و«آي سباي» و«مهمّة مستحيلة»... وهنا، لعبت أميركا دور «قاضي العالم العادل ومخلّص البشرية الذكي». كما كان للمسلسلات الخرافية وقع كبير في نفوس المشاهدين، فتعلّقوا بـ«سوبر مان» و«بات مان»...
شهدت سنوات السبعينيات والثمانينيات التي تتذكرها حلقات الراديو الفرنسي منذ اليوم ولغاية 11 آب، حوادث عالمية وتيارات ثقافية غنيّة، وكانت أميركا في عمقها: حرب فيتنام، الأزمة الاقتصادية، حركات التحرّر والـ«هيبّيز»... وانعكس ذلك على التلفزيون برامج ومحطات (ولادة HBO وFOX). فكان العصر الذهبي للكوميديا المتلفزة مع بيل كوسبي وآندي كوفمان و«تشيرز» و«تاكسي». وشهدت الشاشة أول قبلة بين السود والبيض في «ستار تريك»، وتفعّلت الدراما فظهرت المسلسلات العائلية كـ«داينستي» و«فالكون كرست» و«بونانزا»... أما المسلسلات البوليسية، فاستمرت بنجاح مع «ستارسكي وهاتش» و«ماغنوم».
عصور ذهبية أعطت للتلفزيون روحاً ومعنى... فهل تعود موجة المسلسلات لتطغى على الأخبار؟


جنس وحروب وخيال

يتناول الجزء الأخير من السلسلة الإذاعية «60 عاماً من التاريخ الأميركي»، برامج التسعينيات. إنه عصر شركات الإنتاج والفضائيات التي ساعدت المسلسلات على تحقيق نقلة نوعية عبر العودة إلى الواقع. كما عادت نبرة «القاضي العادل» مع برامج مثل X Files، Law and Order، Chicago Hope... ومع تزايد سرعة الحياة، وتزامناً مع حملة الحروب الجديدة التي خاضتها أميركا، ارتفعت وتيرة المسلسلات الكوميدية التي باتت تتمحور أكثر حول أصدقاء منفصلين عن العائلة («Seinfeld»، «Fraiser»، «Friends»). وقد تميّزت المسلسلات الاجتماعية والكوميدية بقدر أكبر من التطرّق إلى الحياة الجنسية. وشهدت نهاية القرن العشرين طفرة مسلسلات خرافية ــــ فضائية، سعت فيها أميركا لإظهار قدراتها التكنولوجية وأسرارها عن العالم الخارجي.


لوسيل بول