تصادف هذه السنة الذكرى الخمسين لصدور الألبوم الذي احتضن أول لقاء بين الجاز والموسيقى الشرقية... والذكرى الخامسة عشرة لرحيل صاحبه، أحمد عبد المالك. أين صار «الجاز الشرقي»؟
بشير صفير
بشير صفير طرح الفنّان زياد الرحباني أواسط الثمانينيات عبارة «جاز شرقي» لشرح مشروع موسيقي كان قد باشره قبل ذلك بقليل. تكرَّس هذا المصطلح عندما عنوَنَ زياد حفلات تلك الفترة «أوريانتِل جاز كونسِرت» (وكذلك أسطوانة «بهالشكل» وهي تسجيل حفلة عام 1986 في جامعة الـ«بي. يو. سي»)، تبنّى الجمهور المصطلح وصار يطلقه على كلّ لقاءٍ يجمع بين عناصر من موسيقى الجاز وأخرى من الموسيقى الشرقية. تنصّل الرحباني لاحقاً (في أكثر من مناسبة) من هذا التصنيف، فطرح ذلك جدلاً لم يُحسَم بعد.
لكن ما هي المعايير التي تدفعنا إلى تصنيف مادة موسيقية ما بـ «جاز شرقي»: استخدام جازي لآلة شرقية (عود، قانون) في معزوفة ذات نَفَسٍ جازي (نغماً وإيقاعاً)؟ استخدام شرقي لآلة غربية (استطاعت أو لم تستطِع إصدار ربع صوت) تُنسب عادةً إلى الجاز (ساكسوفون، ترومبيت) في مقطوعة ذات أساسٍ شرقي (نغماً وإيقاعاً)؟ استخدام شرقي لآلة شرقية في معزوفة جاز؟ استخدام جازي لآلة من عالم الجاز في مقطوعة شرقية؟...
هذه التداخلات سُمِّيتْ «جازاً شرقياً» تماماً كتداخلات الجاز في إثنيات موسيقية أخرى (جاز أفريقي، جاز لاتيني،...). أولى التجارب في العالم تعود إلى الخمسينيات، عندما سجّل الموسيقي الأميركي ــــ السوداني أحمد عبد المالك، ألبوماً بعنوان «جاز صحارى» (1958)، مزج فيه الجاز بالشرقي، لكنّه لم يصف تجربته بـ«جاز شرقي». فلماذا لم يستخدِم المصطلح الإشكالي لتصنيف تجربته؟ الجواب يحتاج إلى شرحٍ يطول. وما يهمّنا هو توضيح مسألة أنّ الجاز لا يمكن أن يكون شرقياً (أو غير ذلك)؛ الجاز هو جاز، واللاتيني هو لاتيني، والشرقي هو شرقي... وما هو شرقي في مقطوعة جاز شرقي (بين مزدوجين) ــــ انطلاقاً من مبدأ التعريف العلمي ــــ يبقى موسيقى شرقية، وما هو جاز يبقى جازاً... لنشترع إذاً تسمية بديلة (قابلة للنقاش)، استناداً إلى قواعد اللغة، وذلك بإضافة خطٍ فاصلٍ بين عبارتي «جاز» و«شرقي» بحيث لا تعود الثانية نعتاً للأولى: جاز/ شرقي.











أميركي ـــ سوداني


ولد المؤلف الموسيقي وعازف الكونترباص والعود أحمد عبد المالك (1927 ــــ 1993) في الولايات المتحدة، من والدين سودانيَّيْن. تُقسَم مسيرته الفنية إلى ثلاث مراحل متداخلة: الأولى تعود إلى الأربعينيات والخمسينيات خصوصاً، حيث رافق عازف الكونترباص عدداً من رموز الجاز في تلك الفترة، مثل آرت بلايكي وراندي وستون وتيلينيوس مونك (وشارك كعازف عود مع جون كولتراين بدعوة من الأخير عام 1964). الثانية بدأت عام 1958 مع إصدار ألبومه الخاص الأول «جاز صحارى» الذي مَنَح صاحبَه الريادة في مزج الجاز بالشرقي. وأتبع عبد المالك باكورته بخمسة أعمال، صدر آخرها عام 1964. أما المرحلة الثالثة فبدأت مطلع السبعينيات، مع انصراف الموسيقي المتعدِّد المواهب إلى التعليم، بداية في جامعة «نيو يورك»، ومن ثمّ في «معهد بروكلن».


ثلاثون سنة قبل زياد الرحباني، فتح الجاز على روح الشرق




«جاز صحارى»


لم يستطِع أحمد عبد المالك أن ينفصل عن جذوره السودانية وعن الموسيقى الشرقية. بعد مرافقته كبار أعلام موسيقى الجاز، عمل على مشروع موسيقي فريد من نوعه في العالم، قد يكون الأساس لِما انتشر لاحقاً تحت اسم «جاز شرقي». هكذا وُلِدَ عام 1958 ألبوم «جاز صحارى» الذي حوى أربع مقطوعات موسيقية، طغت عليها عناصر الموسيقى الشرقية لناحية الإيقاع والنغم والتقاسيم وتركيبة الفرقة الموسيقية (عود، قانون، دفّ،...) في حين حضر الجاز في الارتجال وفي آلاته الكلاسيكية(ساكسوفون ،كونترباص، درامز). وصف عبد المالك هذه التجربة بأنها عملية مزج (Fusion) بين الشرق والغرب، من دون أي إشارة إلى عبارة «جاز شرقي». هذا الألبوم المرجعي الذي تطغى قيمته المعنوية على قيمته الفنية، أُعيد إصداره في عام 1993 في قرص مدمج، قبيل رحيل صاحبه.