كانت القاهرة أول مدينة عربية يزورها قبل الانتقال إلى بيروت. دُهش حين وجد نفسه لأول مرة في مدينة يتحدث أهلها كلّهم بالعربية... وعمل في «المصوّر» مع الراحل رجاء النقاش،أول النقاد المحتفين بشعر المقاومة

القاهرة ـــ محمد شعير
في الطائرة التي حملته من موسكو إلى القاهرة عام 1972، كان يقرأ ملفاً ضخماً وصفه بأنّه «يحمل مختارات من موسوعة الخيال الشرقي... موضوعه: محمود درويش». ضمّ الملفّ المقالات التي أثارها رحيله عن بلاده. كان درويش يظن أنّ الأمر مجرد «زوبعة ستنطفئ بعد أيام». لكنّ الهجوم استمر. واعتبر كثيرون في خروجه «خيانة» للقضية». لم يجد أحداً داخل فلسطين يدافع عنه باستثناء مقالة نشرتها جريدة «الاتحاد»، استنتج درويش أنّ كاتبها هو إميل حبيبي الذي رأى أنّ «درويش لم يرحل عن المعركة». وعندما وصل القاهرة، قرر أن يعقد مؤتمراً صحافياً أعلن فيه أنّه برحيله إلى القاهرة، لم يرحل عن «المعركة»بل هو قادم من منطقة «الحصار» إلى منطقة «العمل».
وبعد أيام، انضم درويش إلى أسرة تحرير «المصوّر» التي كان يرأس تحريرها رجاء النقاش، فكتب في نيسان (أبريل) 1972 مقالة بعنوان «هل تسمحون لي بالزواج» يطلب فيها ألا يحولّوه إلى أسطورة: «لست بطلاً كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت». وقد لقيت مقالاته صدى كبيراً. ولم تخلُ جريدة مصرية من حوار معه في تلك الفترة، بل إنّ «المصور» نشرت قصيدته «أغنية حب فلسطينية» باعتبارها أول قصيدة يكتبها شاعر المقاومة الفلسطينية بعد وصوله إلى القاهرة. وأضاف الخبر «محمد عبد الوهاب بدأ تلحينها كي تغنيها نجاة». لكن يبدو أنّ حدثاً ما ألغى المشروع.
أسطورة درويش في القاهرة لم تبدأ بوصوله، بل قبل ذلك بسنوات، وتحديداً عندما نشرت مجلة «الهلال» عام 1967 ديوان «آخر الليل» الذي قدّمه النقاش باعتباره الديوان المصادَر للشاعر المحاصر محمود درويش. كما أنّ مجلة «الطليعة» المصرية التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي كانت تنتظر ما ينشره الشاعر في مجلة «الجديد». وكان أشهر ما نشرته له مقالة «أنقذونا من هذا الحب القاسي» طالب فيها درويش النقّاد بـ «وضع الحركة الشعرية الفلسطينية موضعها الصحيح بصفتها جزءاً صغيراً من حركة الشعر العربي المعاصر، بدلاً من الخضوع التام لدوافع العطف السياسي». بعد عام على هذا المقال، نشر عنه رجاء النقاش كتاباً كاملاً بعنوان: «شاعر الأرض المحتلة» (1969). يحكي النقاش أنّه تصوّر بدايةً أنّ «محمود درويش» ليس اسماً حقيقياً بل اسم مستعار لمناضل عربي ثوري يعيش متخفياً في الأرض المحتلة، بخاصة أنّ قصائده الأولى بدت أشبه بمنشور سياسي ثوري». بعدما قرأ النقاش قصائد الشاعر، قرّر أن يكسر الستار الحديدي الذي يعيشه أدباء الأرض المحتلة، واختار درويش لأنّه «أول اسم عربي تسلّل بشعره إلى خارج الأسوار الإسرائيلية».
لم يستمر درويش في القاهرة طويلاً. عامان فقط، التحق في الشهور الأخيرة كاتباً في «الأهرام» وتحديداً في «الدور السادس» الذي وضع فيه الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل النخبة المثقفة المصرية ككاتب لـ «الأهرام». وفي تلك الفترة، زامل درويش في المكتب نفسه الشخصيتين المتناقضتين: يوسف إدريس، ونجيب محفوظ. ولهذه الصداقات، رأى أنّ القاهرة «أهم المحطات في حياته»، بل «منطلقه الشعري الثاني». يحكي في أحد حواراته: «كانت الصحافة اللبنانية تهاجمني، وخصوصاً مجلة «الحوادث»... في القاهرة، تمت ملامح تحوّل في تجربتي الشعرية، كأنّ منعطفاً جديداً بدأ».
رحل درويش من القاهرة إلى بيروت، لا أحد يعرف أسباب رحيله، لكنّ ظلت علاقته بالمدينة في حالة ارتباك شديد. كتب قصيدته التي عدّها بعضهم هجاءً في المدينة: «عودة الأسير» التي بدأها بـ «والنيل ينسى، والعائدون إليك منذ الفجر لم يصلوا. ولست أقول يا مصر الوداع». وظل درويش ممنوعاً بعد كامب ديفيد من دخول القاهرة، حتى 1984، عندما جاء لإحياء إحدى الأمسيات الشعرية بعد «سبع سنوات من الغياب القسري». وقال في إحدى الندوات التي أقيمت له وقتها: «كان يصعب أن أصدّق أنّ مصر ذاهبة إلى المتراس المضاد».
وعندما نشر قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر» عام 1988 وعدّتها إسرائيل بمثابة إعلان حرب ضدها، قرّر أن يترك باريس للإقامة الدائمة في القاهرة، لكن يبدو أنّ منظمة التحرير رفضت. هكذا ظلّ يأتي إلى القاهرة، مشاركاً في الندوات، وأحياناً في زيارات قصيرة لأصدقائه، وكان آخرها في مؤتمر الشعر العام الماضي الذي مَنحه جائزة دورته الأولى.