كان محمود درويش على الدوام غامضاً بشأن حياته الخاصة، ولم يتحدّث إلا نادراً عن الزواج. أجاب أحدَ الصحافيين يوماً عن سؤاله الفضولي: “يقال لي كنت متزوجاً، لكنني لا أتذكر التجربة”! ويروي أنّه قابل رنا قباني، ابنة أخي الشاعر السوري نزار قباني، في واشنطن سنة 1977 فتزوجا “لثلاثة أعوام أو أربعة”، ثم سافرت لتحصيل شهادة الدكتوراه من “جامعة كامبردج”... وتزوج قرابة عام في منتصف الثمانينيات مترجمة مصرية هي السيدة حياة الهيني: “لم نصب بأي جراح، انفصلنا بسلام. ولم أتزوج مرة ثالثة... ولن أتزوج. إنني مدمن الوحدة. لم أشأ أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية. ما احتاج إليه هو الاستقرار، فأنا أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي... طوال الوقت. الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله، وما يضرّه، أتجنبه”.ويعترف محمود بفشله في الحب: “أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي (الحوت)، عواطفي متقلّبة. حين ينتهي الحب، أدرك أنّه لم يكن حباً. الحب لا بد من أن يعاش، لا أن يُتذكر”.

السجن الأول لا يُنسى

خلال إقامته في فلسطين، أيّام الشباب، اختبر الشاعر القمع الإسرائيلي على أشكاله، تعرّض للمضايقات، وذاق طعم السجن الذي كتب فيه بعض أجمل قصائده الأولى، وفرضت عليه الإقامة الجبريّة قرابة عقد. سجن للمرة الأولى سنة 1961 بعد عام على انتقاله من قرية الجديدة ليعيش وحده في حيفا. يقول درويش عن تلك التجربة: «السجن الأول مثل الحب لا ينسى». وسُجن مجدداً سنة 1965 بسبب سفره إلى القدس من حيفا من دون تصريح. كما سُجن مرة أخرى عندما أقام الطلاب العرب في الجامعة العبرية أمسية شعرية، فذهب محمود من حيفا إلى القدس للاشتراك في هذه الأمسية، وهناك ألقى قصيدته المعروفة «نشيد الرجال» التي يقول مطلعها: «لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قدمي/ من الأشواك/ إن خطاي مثل الشمس/ لا تقوى بدون دمي!/ لأجمل ضفة أمشي/ فلا تحزن على قلبي/ من القرصان.../ إن فؤادي المعجون كالأرض/ نسيم في يد الحب/ وبارود على البغض». وقد نشر تلك القصيدة لاحقاً في ديوانه الثالث «عاشق من فلسطين».

«الأرض مثل اللغة»

أنجزت سيمون بيتون فيلماً مرجعيّاً عن محمود درويش، قبل سنوات، لمحطّة «آرتي» الفرنسيّة ـــــ الألمانيّة. الشريط جاء بعنوان «الأرض مثل اللغة»، ويندرج ضمن سلسلة «قرن من الكتّاب» التي كانت تخصّص كل حلقة من حلقاتها لكاتب عالمي بارز. ومحمود درويش كان الأديب العربي الثاني الذي تسلّط عليه الضوء بعد عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.
في الفيلم (59 دقيقة ـ 1998) الذي حقّقته بيتون بالتعاون مع المؤرّخ الفلسطيني إلياس صنبر، مترجم درويش إلى الفرنسيّة وأقرب اصدقائه، تستعيد السينمائيّة والكاتبة الإسرائيليّة مسيرة الشاعر وإبداعه، معاركه وحياته من خلال سلسلة مقابلات معه، وتعليق يرصد ويحلّل أبرز المراحل في حياته التي طبعته ووصمت كتابته وشعره أيضاً. هكذا، ترسم له بيتون صورة غنيّة، فاذا بها تنقل للمشاهد تجربة خصبة من صلب ذاكرتنا الجماعيّة، يتقاطع فيها الخاص بالعام كلَّ لحظة، فإذا بكل الطرق تفضي إلى القصيدة.