ياسين عدنانوأخيراً عادت جائزة “الأركانة” إلى محمود درويش. هنيئا لها إذاً. هنيئا لهذه الشجرة النادرة التي لا تنبت إلا في المغرب بطائر حُر اسمه محمود درويش. فدرويش من طينة المبدعين الذين تُهنَّأ بهم الجوائز قبل أن يهنّؤوا عليها. وثلة الشعراء والنقاد المغاربة الذين تحلّقوا حول محمد الأشعري قبل أسابيع في فاس ليحسموا مصير الجائزة العالمية لبيت الشعر المغربي في دورتها الثالثة، كانوا فعلاً وهم يتهامسون فيما بينهم باسم درويش يرتَقون بهذه الجائزة إلى أعالي الكلام، هناك حيثُ الشعر في بُعْده الجمالي العميق يعكس ملامح الوجهِ الآخر للمقاومة. فبعد الشاعر الصيني بي ضاو، والرائد المغربي محمد السرغيني، يحظى محمود درويش بالأركانة في طبعتها الثالثة.
تقرير لجنة التحكيم الذي وقَّعه الأشعري ورفاقه (المهدي أخريف، حسن نجمي، رشيد المومني، والناقدان عبد الرحمان طنكول وخالد بلقاسم) رأى درويش “لحظةً مضيئة في تاريخ الشعر الإنساني”، إذ “لم يكفَّ، منذ أن وعى أن الشعر مصيري، عن البحث عن القصيدة في الألم والفرح، في الحياة والموت، في الورد والشوك، في الكلّي والجزئي، من غير أن يُفرِّط في شهوة الإيقاع، أي في الماء السري للقصيدة”. وأضاف التقرير أن درويش “رسَّخ، ولا يزال، القيم الخالدة، مؤكداً في مُنجزه الكتابي وعبره، أن المادة الرئيسية لهذا الترسيخ لغةٌ لا تتنازل عن جماليتها وبهائها، ولا تتنكر لدمها الخاص”.
محمود درويش، الشاعر الملحمي الذي لم يكفَّ منذ الـ«جدارية» عن مُنازلة نفسه داخل الفضاء التراجيدي الذي ارتضاه منذ شهْقتِه الشعرية الأولى، كان سعيداً بالجائزة. هذا على الأقل ما أكده لصديق مغربي اتصل به مهنّئاً فور إعلان فوزه بها. والمؤكد أن كثيرين كانوا في انتظار محمود درويش في مسرح محمد الخامس في الرباط يوم 24 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، حيث كان يُفترض أن تجري وقائع حفلة تسليم درع الأركانة إلى الشاعر الكبير، وحيث كان من يُتوقع أيضاً أن يعانق صاحب “سرير الغريبة” جمهوراً صديقاً جمعته به ألفة خاصة.
مسرح محمد الخامس كان أحد الفضاءات الأثيرة لدى الشاعر الفلسطيني الراحل. هناك اعتاد أن يقرأ شعره كلما زار المغرب. حتى قصائد دواوينه الأخيرة التي صار فيها درويش أكثر إصغاءً إلى الحياة وانشغالاً بالبحث في أشكال الكتابة. في مسرح محمد الخامس قرأ درويش لشباب اليسار الجديد الذي لم يكن يرضى عن الثورة الوطنية الديموقراطية بديلاً. ثم قرأ أمام أبنائهم وقد كبروا وصاروا طلبة في معاهد المسرح والسينما والتشكيل وكليات الطب والصيدلية، وأمام الآباء أيضاً وقد صاروا يجلسون أمامه مباشرة في الصفوف الأولى بربطات عنق وبذلات تليق بمسؤولياتهم الجديدة. الصداقة ضاربة في العمق إذاً، وكل طرف ظل يراقب تحوُّلات الآخر. ومسرح العاصمة العريق كان يتحفّز لاستعادة عنفوانه بضمِّه الوجوه القديمة نفسها إلى أخرى جديدة ما دام الضيف المنتظر هو درويش.
في بداية التسعينيات، وبعد يوم نضالي ساخن، أوقفنا معركتنا داخل كلية العلوم في جامعة محمد الخامس في الرباط، ثم خرجنا في ما يشبه التظاهرة مشياً على الأقدام باتجاه المسرح. كان درويش سيقرأ تلك الليلة، ورأينا أن حضور أمسيته ومُقاطعَته من حين إلى آخر بالشعارات تتويجاً مستحقاً ليومنا النضالي الحافل. لكننا وجدنا الباب شبه مغلق. أخبرَنا الحراس أن الدخول بالدعوات، ثم إن قاعة مسرح محمد الخامس مكتظة عن آخرها. أُسقط في يد الرفاق. الشرطة تطوّق المكان. ونحن منهكون بسبب معركة كلية العلوم وقطع كل هذه المسافة سيراً على الأقدام. الرفاق حائرون. بدأنا نقلّب الأمر على كل أوجُهه. في تلك اللحظة، ظهر درويش. كان قادماً للتوّ من فندق “حسان” القريب محفوفاً بشخصيات ثقافية وسياسية بارزة. حينها صرخ في وجهه أحد الرفاق: “نحن ممنوعون من الدخول يا درويش، لكننا سنحضر أمسيتك غصباً عن الجميع”. فغمغم الشاعر الراحل مرتبكاً: “من حقكم الدخول. لكن باللين وبدون فوضى”. أجابه رفيقنا الغاضب: “بل غصْباً وفوضى ورغم أنف الجميع. ألستَ القائل: حريتي فوضاي؟”. هنا نظر إليه درويش بارتباكٍ داراهُ بابتسامة متضامنة وانسلَّ إلى الداخل. بدأ بعض الرفاق يرددون الشعارات في الخلف. ثم اشتدت حرارة المشهد. رجال الشرطة يتأهّبون. نحن نسينا الشعر وانخرطنا في ترديد الشعارات مفكرين في مواجهة البوليس. في تلك اللحظة، جاء موظف ثخين يركض نحونا. صرخ في وجه الحراس: “افتحوا الأبواب فوراً ليدخل الجميع”.فدخلنا، وطبعاً أغْنَينا الأمسية بما جادت به القريحة من شعارات غاضبة. غضبٌ يدي. غضبٌ فمي. ودماء أوردتي عصيرٌ من غضب.
عزيزي محمود درويش، كنتُ سأحضر أمسية 24 أكتوبر. كنت سأصغي إلى قصيدتك الجديدة كالعادة بحبّ وتعلم وتقدير. كنت سأحتمي بشعرك من شعاراتٍ كثيراً ما خذلتنا وهي تبدِّل جلدها في منتصف الطريق. لكنك لن تأتي إلى الرباط. لن تقرأ قصيدتك. ولهذا السبب بالضبط، كل شجر الأركان في المغرب يبدو حزيناً. أهو الحدادُ إذاً؟ أيها الشاعر الكبير، الأركانة على الأقل استحقتك. وتستحق أن نهنّئها بك. فقد نجحتْ فيما فشلت فيه نوبل. ثم إنك أيها الشاعر كنت على الدوام أكبر من كلّ الجوائز، أعلى هامة وأكثر سموقاً.