خليل صويلحكان للخبر وقع الصاعقة: محمود درويش في المستشفى! كنّا نتوقّع أن الهدنة طويلة بين الشاعر والموت. ألم يكتب الجدارية في تفسير الحالة والخروج من أتونها؟ ألا تكفي هذه الفاتورة الباهظة لإنقاذ الشاعر؟
نحن في كل الأحوال بحاجة ماسة إلى محمود درويش. بغيابه، ستبدو فلسطين مرة أخرى ثكلى، ثكلى أكثر مما سبق، ثكلى أكثر مما نحتمل. وهي، في كل الأحوال، لا تحتاج إلى خسارات جديدة. لعلّه الجدار الأخير الذي كنّا نسند أرواحنا إليه من التعب الطويل وقلة الحيلة في الشعر. هناك ــــ ولا شك ــــ خطأ مطبعي في ما يحصل: أنقذوا قلب الشاعر من التلف، فقد انتهى الاحتياطي في الخزّان، ولم نعد نحتمل عطشاً آخر. محمود درويش ليس شاعراً فلسطينياً فحسب، إنّه يخصّنا جميعاً. انظروا إلى كتبه في مكتباتنا المنزلية، ما زال “أثر الفراشة” قيد الاستعمال، ولم ندر ظهرنا لـ“سرير الغريبة” أبداً. الواقع أنّنا وجدنا نصّنا الشخصي. فقد تخلّص الشاعر من ألقابه، وذهب متخفّفاً من ثقل ما لحق قصيدته من أوزارٍ وطنية، ليكتب نصه الخاص. النص الذي يحبّ. النص الذي نحبّ، من دون إيقاعاته العالية والهتاف الذي ينتهي بالتصفيق. لا شك في أنّ محمود درويش خذل القارئ العادي المرتهن للإيقاع وحده، حين ألغى فقرة القنابل الدخانية من نصه، واعتنى بالمنمنمات الذاتية والتفاصيل الجانبية المهملة، ومعنى قوة الحياة وهشاشتها، ومعنى أن يصير الشاعر عاشقاً لإمرأة ليست هي فلسطين كما يشتهي ويرغب أصحاب التأويل النقدي المياوم. أراد أخيراً، وربما متأخراً، أن يكتب قصيدته العزلاء التي تشبهه، كما يفعل شعراء آخرون لا يحملون الهوية الفلسطينية، لفلسطين مؤجلة في الأساس، ولقرية لم تعد تحمل اسمها الفلسطيني بعدما هدمها اليهود.
والآن إلى أين يعود جثمان الشاعر الشريد بين المنافي، و“الماكيت” الوهمية لفلسطين ما بعد أوسلو؟
مَن يتحمّل وزر دفن الشاعر بعيداً عن مقبرة سلالته الأولى؟ وهل سيبتسم الإسرائيلي وهو يضيف إلى قائمة الموتى اسماً صعباً آخر، لم يتمكّن منذ نصف قرن أن يمحوه من الأناشيد المدرسية وحناجر المغنين؟ سأتذكر كلاماً للشاعر، أجده ضرورياً في هذا المقام “أنقذونا من هذا الحب القاسي”. قالها درويش باكراً، وحين لم يستمع أحد إلى النصيحة، تفرّغ لكتابة نصه الآخر. تخلّص من شوائب الهتاف الاضطراري، ورنين الكلام. أزاح مفردات “القضية” جانباً بفطنة عالية، وكتب تمارين جسورة في الألم الشخصي والفقدان. وإذا بها انعطافة في شعره أولاً والشعر العربي ثانياً. ها هو شاعر من وزن محمود درويش يلتفت إلى الاحتفال بالحياة ويستعيد الميثولوجيا الكنعانية ليستمدّ منها جذوره الأولى، وأسئلة الشتات في المعاجم، وينتصر للضفة الأخرى، بعيداً عن المريدين القدامى وصدى التصفيق في المدرجات الرومانية من قرطاج إلى جرش.
سنكتشف من دون عناء أنّ مريدين جدداً تبعوا قافلة محمود درويش في بلاغتها ومجازها الآخر، حين اعتنى بالسرد الشعري والكثافة اللغوية والاقتراب الحذر من النثر، لا بل إنّه مزج أخيراً بين النثر والسرد الشعري في كيمياء ترفض الانصياع إلى ما هو مستقر: محمود درويش ضد محمود درويش في نثرٍ صافٍ. ليس غريباً على صاحب “كزهر اللوز أو أبعد”. فقد اختبره في محطات عابرة، قبل أن يخوض في جحيم الذات باحتفالية العاشق والمنفي والأعزل. الشاعر المجازف توغّل بعيداً في اللغة، فحص متاهاتها وهضابها وجبالها ووديانها في رحلة تراجيدية “لتحويل قصائد الفقدان الغنائية إلى دراما العودة المؤجّلة إلى أجل غير محدود”، وفقاً لما قاله إدوارد سعيد. لكن هذا الفقدان لم يمنعه لاحقاً من ترميم المشهد بما هو شخصي صرف، يخص الكائن وحده، بعيداً عن دراما الجموع، ومأساة الخريطة المؤجّلة والمنهوبة.
هل هو إنذار القلب المبكر منذ سنوات، ما جعله يتأمل نصَّه المؤجّل؟ ربما نعم. وكان عليه ألا يندم أو ينصت إلى نصائح الذائقة الكسلى في الإقامة في البيت القديم. هكذا، كان عليه أن يحطّم الجدران ويكتب نصه في العراء: لا، لم تبتعد فلسطين، كما يتذرّع آخرون، ولم تخفت الحماسة، فقط استبدل رنين الفضة بصفاء البلّور، لأنّ فلسطين، ببساطة، تحتاج إلى هذا النص اليوم أكثر مما هي بحاجة إلى النص القديم. فبحر عكا صار أقرب إلى فتى الجليل النحيل: “... ويا موت انتظر، يا موت، حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع وصحّتي، لتكون صياداً شريفاً لا يصيد الظبي قرب النبع”.
لكن هل مات المؤرخ الغريب في أرضٍ غريبة حقاً؟ ها هو متنبي آخر “في حضرة الغياب”، مَن كان يجمع الماء والنار في يدٍ واحدة، الصوت واللفظ، اللذة والألم وشبق المعنى، والفجائعية، وفضاء العيش. وهو كذلك مَن أعلن “لا تعتذر عمّا فعلت” بكل مقاصدها المجازية والجمالية. لنردّد مع الشاعر إذاً “علينا أن نتفهّم سبب التراجيديا لا تبريرها”.