ما إن أُعلن خبر غيابه، حتى جاء أحدٌ ليحذّر مِن «انحرافاته». وهو الأمر الذي واجه نجيب محفوظ ويوسف شاهين. إنّه قدره أن يرحل في زمن الرجعية الجديدة

محمد خير
في معرض القاهرة للكتاب، كان الزحام مفهوماً كل عام أمام جناح دار «رياض الريّس». الديوان الجديد لمحمود درويش لم يكن مطراً نادراً، كان موعداً لا يخلفه صاحبه، ونهراً لا يتوقّف عن الجريان محمّلاً بملايين الاستعارات والصور، لكنّ صخوراً اعترضته من حين إلى آخر. وفي سنواته الأخيرة، دخل بهدوء في قوائم الرقابة المصرية التي احتجزت ديوانه «أحد عشر كوكباً» بعد صدوره بسنوات، في وقت بدت فيه السلطتان السياسية والدينية في مصر شيئاً واحداً. قبل ذلك، في زمن المواجهة بين الأصوليين والسلطة منتصف التسعينيات، وقف درويش في معرض الكتاب وسط حضور كثيف بشكل لا يصدق، ليقول «عساني أصير ملاكاً» بدلاً من «عساني أصير إلهاً». كان يلقي «إلى أمي»، ففاجأ مَن يحفظون القصيدة وأغضب معظمهم لكنه ـــــ مع ذلك ـــــ لم ينج من كراهية الآخرين. بعض أولئك الآخرين لم ينتظر حتى يكمل درويش ليلته الأولى على الضفة الأخرى، فبادر بملء صفحة الشاعر الكبير على موسوعة ويكيبيديا بالتحذير من «انحرافاته» ولا غرابة. هو الأمر نفسه الذي واجه نجيب محفوظ ويوسف شاهين، وكل مَن شاء لهم قدرهم أن يرحلوا في زمن الرجعية الجديدة، ذات الطابع الشعبي التي ارتدت رداء تكنولوجيا التعليقات على الأخبار، تلك الخدمة التي فتحت البطن العربية وأظهرت ما بها من قيح مؤكد، وأمل عابر وشاحب.
لكنّ محمود درويش ـــــ تماماً كبقية كبارنا الراحلين ـــــ أقوى من التراجعات الموقتة، وأكثر ثباتاً من الأفكار التي أنجبها اليأس، شاعر الثورة ظلمته الثورة، إذ ربطته بها. هنا بحر من الشعر لا تحدّه شواطئ طبريا، أمواجه لمست كل البلاد، وأبناؤه في كل بيت ينطق بالضاد، مع أنّه لغة مستقلة، قامت بذاتها ثم رحلت بنفسها فجأة من دون أن تتكئ على كتف أحد، لماذا ذهب درويش إلى جراحته وحيداً؟ لأنه هزم الموت مسبقاً، بكلمات لن يطمسها عشب الضريح.
في مناسبات أخرى للقاء الجمهور، كان درويش يتأخر في الصعود إلى المنصة، تعطّله الصحافة والتلفزيونات والمسؤولون الرسميون، فكان جمهور القاعات يبدأ التصفيق ولا يتوقف حتى يصعد شاعره الذي بدا شاباً أبدياًَ انتقى لأشعاره أرضاً خاصة، بعيدة عن خلافات الشعراء والنقاد، يلعب بين الشعر والنثر، الحر والتفعيلة، لا يحاسبه أحد «كم أنت منسيّ وحر في خيالك» يقول ويستعين في مقدمة ديوانه «كزهر اللوز أو أبعد» بعبارة أبو حيان التوحيدي (أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر ، ونثر كأنه نظم). لكنّ خلافات الشكل لم تزعج الرجل الذي استطاع أن «يرث أرض الكلام ويملك المعنى». استطاع أن يطوّر قصيدته الخاصة بمعايير لا يمكن القياس على غيره بها، أو قياس شعره بغيرها، واحتفظ بطزاجة القصيدة وتدفّق المعاني والتراكيب والجماليات التي تضرب جذورها في أرض التراث العربي، لكنّها تمتد حتى الضفاف الأجنبية، كموسيقى فلامنغو تعزفها غجرية تتمشى بين قصور أندلسية.
هو ابن العالم وشعره كذلك. رغم ارتباطه بالتراب الفلسطيني، كانت أحزانه من كل مكان، وكان شعره إنسانياً لا بل كونياً أدرك في حالة نادرة عربياً أنّ الاعتداء على الحق اعتداء على الطبيعة أيضاً (أتعلم أن الغزالة لا تأكل العشب إن مسّه دمنا؟ أتعلم أنّ الجواميس إخوتنا والنباتات إخوتنا يا غريب؟ لا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السلحفاة التي تنام على ظهرها الأرض! جدتنا الأرض أشجارنا شعرها وزينتنا زهرها «هذه الأرض لا موت فيها يا غريب») ، هكذا قال في «خطبة الهندي الأحمر»، فما أصعب أن يستخدم الشاعر «كليشيه» فيحيله إلى قطعة فنية، الربط بين الفلسطيني والهندي الأحمر في شعر درويش جاء ربطاً أشمل من هذا وذاك، وعلاقة بين الماضي والآتي لا تلتقط آثارها الأقمار الصناعية. إذ إنّ «هنالك موتى يمرون فوق الجسور التي تبنونها، هنالك موتى يضيئون ليل الفراشات، موتى يجيئون فجراً لكي يشربوا شايهم معكم، هادئين كما تركتهم بنادقكم».
انتهى إذاً الكتاب الدرويشي، واستراح صاحبه ـــــ بعد الرحيل المفجع والسهل ـــــ في مكانه داخل خلايا العقل العربي، ولئن لم تنجح ـــــ بعد ـــــ الثورة ، فإن درويش هو شاعر «فكرة» الثورة. الثائرون فقط يتذكرون أنّ «قلاعاً صليبية قضمتها حشائش نيسان بعد رحيل الجنود» والشعراء هم مَن يعرفون أنّ المكان «عثور الحواس على موطئ للبديهة». ويدركون أنّ لا مسافة بين البداية والنهاية، فهناك لا مكان ولا زمان، حيث ذهب الشاعر الذي وصف الرحيل قبل أن يرحل «أرى السماء هُناك في متناولِ الأيدي/ ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب طفولة أخرى».