محمد دكروب في حديث ثقافي قديم أجريته مع محمود درويش ــــ ذات يوم من أيام عام 1968 ــــ قبيل انتقاله العاصف من فلسطين المحتلة إلى مصر وسائر بلدان العرب، قال لي، بثقة مَن يحدّد موقعه على خارطة الشعر، في ذلك الزمان: «إنني أعتبر نفسي امتداداً نحيلاً، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة، ابتداءً من الصعاليك حتى ناظم حكمت ولوركا وأراغون الذين هضمتُ تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدّوني بوقود معنوي ضخم».
كان محمود في عنفوان شبابه، وانطلاقات توهّجه الشعري ــــ المقاوم ــــ في أنحاء بلادنا، يعلن للناس العرب، الذين زلزلتهم الهزيمة، عن وجود جماعات من الشعراء والمكافحين، داخل فلسطين، تمارس تمرّدها على غطرسة القوّة الإسرائيلية التدميرية، وتضيء شموعاً في ليل الهزائم.
درويش، وصحبة من شعراء فلسطين الشباب، كانوا في هذا الموقع المقاوم للقمع العنصري، في هذا السياق من شعر يتحدّى اليأس ويقدح الشرر. إلا أن محمود درويش بالذات، المكافح، والمنتمي، والكاتب السياسي في جريدة يومية، كان شاعراً بالأساس، يجري الشعر مجرى الدم في شرايينه وكل مكوّناته الإنسانية. وكان نهماً يعبّ الحياة، والحب، والثقافة، وشغوفاً دائماً بتطوير الذات، ثقافياً وفكرياً في السياق نفسه لتطوّر هذه الذات نفسها شعرياً.
وبقدر ما انعجن شعره بالقضية، قضية وطنه المنفي عن شعبه والشعب المنفي عن وطنه، في زمانه الشعري الأول، فقد صارت القضية نفسها عنصراً مكوّناً في حركة تطوّر شعره، ورؤاه الفكرية، ومسارات حياته. لم تعد القضية عنصراً ما، خارجياً، «يعبّر الشاعر عنها»... فعلى مدى زمان محمود درويش الشعري، صار الشعر الشعر، هو القضية.
وكان في الظنّ أن تحوّلات محمود الشعرية، وتوغّله في العمق ممّا يقال إنه: التباس، ورمز، وتصارع الرموز في قلب غموض الشعر وشفافيته ــــ كان في الظنّ أن هذه التحوّلات تبتعد بالشاعر عن الجمهور وتُبعد الجمهور عن شاعرها.
فلماذا ظلّ الناس يحتشدون للاستماع إلى محمود درويش؟ مَنْ عاش زمان درويش الأول وجماهيريته: التصفيق الصاخب بما يشبه الطرب... ويتأمّل صورة احتشاد جمهور درويش في زماننا الحالي، يرى عجباً، مدهشاً، ومحرّضاً على التفكّر والتحليل: جمهور درويش في زمانه هذا، يستمع بشغف، وهدوء، يستمع ويتأمّل، يستمع ويفكّر، يشغّل جهازه الحيوي والعقلي والفكري، يحاول الدخول إلى عمق الشعر، إلى فكر درويش الشعري، حتى عمقه الفلسفي والإنساني في نسغ الشعر وشرايينه.
كأننا نلمس، هنا، ذلك الفرق العميق بين أغنية الطرب (الجميلة على كل حال) والبناء السمفوني الشاسع الذي كلما طال وتعدّد استماعك إليه تتوغّل عمقاً فيه، وتعرّفاً إلى جمالياته. محمود درويش، الشاعر أساساً، لم يكن ليتعب فقط في إبداع ما يبدعه.. كان يتعب أيضاً، ويكدح، وينوّع في نهمه الثقافي الفكري والحياتي.
كانت القضية إحدى حوامل شعره الأول. صار الشعر الشعر هو قضية محمود درويش. وظلّ محمود درويش جماهيرياً، بالعمق والمدى الشاسع. كان يرجو ــــ كما قال لي منذ أربعين عاماً ــــ أن يكون امتداداً نحيلاً لأمثال ناظم حكمت ولوركا وأراغون، فصار واحداً من كبار شعراء العالم، يضيء، بملامح شعره الفلسطينية وعمقها، دنيا الشعر في هذا العالم الواسع.