رام الله ــــ نائلة خليلرام الله كانت مدينة شاحبة أمس، لا حديث لأهلها سوى غياب محمود درويش. الأصدقاء والمقرّبون منه رفضوا الحديث، الشاعر سميح القاسم أجاب بصوت متهدّج على الهاتف: «أنا مخنوق مش قادر أحكي». أما الشاعر غسان زقطان والكاتب زكريا محمد، فلم تفلح كل المحاولات في إخراجهما عن صمتهما. بعد الإعلان عن خبر وفاته رسمياً، تجمّع العشرات من محبي درويش، على دوار المنارة وسط البلد، يحملون الشموع وينتحبون. «لم يعد لدينا أحد»، كانت هذه العبارة الأكثر شيوعاً. كان درويش صوت فلسطين، واليوم غاب، والأسوأ أنّه سيوارى في قبر موقّت قرب قصر رام الله الثقافي، بعيداً عن قريته البروة.
محمود درويش سيُدفن في رام الله التي أقام فيها منذ عودته بعد اتفاق أوسلو ومنها كان يتنقل إلى عمان وباريس. مذ عاد إلى الأراضي الفلسطينية، قطع أي علاقة له بالعمل السياسي، مفضلاً التفرغ لمشروعه الشعري، بدأ الأمر عندما استقال من عضوية اللجنة التنفيذية عام 1993، كانت الاستقالة احتجاجاً على اتفاقية أوسلو، ثم تبع ذلك رفضه منصب أول وزير فلسطيني للثقافة في السلطة الفلسطينية حديثة العهد، ما سبّب غضباً للرئيس الراحل ياسر عرفات.
يعلق الدكتور والناقد عادل الأسطة على عودة درويش إلى رام الله بأنّها «لم تكن عودة حقيقية إلى الوطن. بعد أوسلو، لجأ إلى الصمت بما يخص الشأن السياسي، لأنه لم يكن راضياً عن الاتفاق». ويضيف الأسطة الذي يتابع مسيرة درويش منذ الثمانينيات ويدرّس تجربته الشعرية في جامعة النجاح الوطنية «إذا عدنا إلى النصوص التي كتبها بعد أوسلو، وتحديداً في «لماذا تركت الحصان وحيداً»، نلاحظ بوضوح أنّ هذا السلام لم يكن سلام الند للند، بل كان في الديوان هجاءٌ مبطنٌ للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات».
يقول الأسطة إنّ درويش هجا أبو عمار في شعره، لكنه عاد واسترضاه، ويوضح: في ديوان «أحد عشر كوكباً»، هجا درويش ياسر عرفات مباشرة حيث قال «لماذا تطيل التفاوض يا ملك الاحتضار» كما وردت عبارة أخرى هي «إن هذا السلام سيتركنا حفنة من غبار». أحد أفراد حاشية أبو عمار قرأ القصيدة له حين كان في تونس، ودرويش في باريس، وقام أبو عمار بمكالمته هاتفياً وطلب منه الحضور فوراً، وعاتبه على ما كتبه. ويبدو أنّ درويش انصاع لهذا العتاب، لذا صدرت القصيدة في طبعات لاحقة معدلة على النحو الآتي: «إن هذا الرحيل سيتركنا حفنة من غبار».
يرى الشاعر زياد خداش الذي كان صديقاً للشاعر، أنّ «رام الله لمحمود درويش كانت مثل باريس أو عمان محطة للإقامة الموقتة». قبل سفره إلى الولايات المتحدة لإجراء العملية الجراحية، كان درويش وزياد خداش وغسان زقطان يجلسون في مطعم «فاتشيه» المفضّل لدى درويش. يقول خداش: «كان سعيداً وقال لنا: أنا مش خايف من الموت، الموت هو اللي خايف مني، أنا شبه دخلته وشبه جرّبته، واكتشفت أنه مش بالهيبة والجبروت التي يظهر بهما».