سعد هاديموت محمود درويش يعني (شئنا أو أبينا) عودة الروح إلى شعره، ستذهب الكاريزما وتبقى النصوص. وسنكتشف الكثير من المفارقات حينئذٍ ليراودنا سؤال تلقائي: ما الذي يعنيه وجود الشاعر وما الذي يؤدي إليه غيابه؟
كان شاعر صوت بقدر ما هو كاتب نصوص. أعادنا إلى الشفاهية من باب موارب في زمن هيمنت فيه وسائل الاتصال، وطغت عناصر المرئيات. وكان مخلصاً لتقليد متوارث في سيادة الشعر على الفنون الأخرى (ولو معنوياً). لكنه بدلاً من تقمّص دور الرائي أو النبي ــــ كما هو حلم الشعراء الدائم ــــ تقمّص دور الخطيب ليعلّق على حدث أو يشير إلى ظاهرة معينة. كانت قصائده تبدو مثل ألغاز حين نقرأها، لكن حين نصغي إليه وهو يلقيها سنكتشف سحرها، سيتحول لاترابطها وغرابتها وعدم انسجام أجزائها بل روحها التصادمية إلى بنية موسيقية جذابة، ظاهرة وخفية: ظاهرة في تكرار الإيقاعات وتلاحقها المثير، وخفية لأنّ درويش كان يدسّ المكائد خلف كلماته دون أن يصل إلى الحدود القصوى للتعبير أو يوصلنا إليها، غاياته الأدائية لم تكن مدركَة، ليس فقط لمجايليه ومريديه بل ولمقلّديه أيضاً.
صنع درويش صوته بكثير من المهارة والصبر، فنياً وإعلامياً، بينما قيل الكثير عن صناعة الحوادث له. لكن حتى لو لم تكن هناك قضية كبرى عاش بها ولها كقضية فلسطين، لعلّه كان سيظل نجماً شعرياً، سيخترع قضية أو يحوّل الشعر نفسه إلى قضية، أو ربما كان سيتحوّل هو إلى قضية. لقد أعطى كل منهما للآخر الكثير: القضية وشاعرها، في خضم واقع ملتبس ومناخ ثقافي يتردى باستمرار، أعطت القضية لدرويش مجالاً شعرياً لا حدود له، وأعطاها هو بواكير شعره وحياته. ثم مع تغيِّر الأحوال وتعقِّد المسارات، عاد إلى نموذجه الشعري البسيط والغنائي، ليعيد صناعته. أعاد إلى الأذهان (في لحظة التحوّل الكبرى في الشعر العربي أواخر السبعينيات) أنه شاعر لذاته (لا كما يفعل السرياليون) وأنه ليس كاتب بيانات أو معلّقاً سياسياً. أروع ما فيه أنه كان شاعراً في كل حالاته، لفت الأنظار إلى وجود الشعر والشعراء في ظل الفوضى والخراب وتردّي الأفكار والمشاعر. كلما رآه الناس تذكروا كائناً سماوياً من الماضي، ربما ينطق عن الهوى، لكن معظم ما ينطقه ذو معنى، بل أعاد تذكيرهم بأن وجود الشاعر ينبغي ألا يظل أثيرياً، فلا بد أن يعود إلى الأرض. ومثلما ظل درويش ماهراً في لعبته اللغوية والكتابية والصوتية، ظل ماهراً في لعبة الحياة. ظلّت لديه القدرة على التأثير في الحوادث بل صناعتها. حين قال مرة عن وزير عراقي سابق إبّان مشاركته في إحدى التظاهرات إنّه “وزير الشعراء”، تحوّلت العبارة المواربة والماكرة إلى دليل عمل لهذا الوزير، لم تضاهِها نياشينه ربما. وظل شعراء الوزير يرددون الجملة كشهادة جادة عما يفعلون، من دون أن يفطنوا إلى اللغز المرائي الذي تركه الشاعر الشهير بينهم.
برحيل درويش، سيفقد الشعر العربي الكثير من صلاته مع من بقي من متلقّيه، وخصوصاً في ظل هيمنة النموذج النثري بمحمولاته، حقيقية كانت أو مزيفة، والتي يصل بها كتّابها حدود الفجاجة، ناسفين آخر ما بقي من جسور العلاقة مع الآخر، مع القارئ المرائي الذي لم يعد لديه ما يخسره. جاذبية درويش، تاريخه الشعري، علاقته الوجدانية بالمتلقّين، كل تلك خصائص يصعب أن تتكرر. سيظل صوته يتردد حاداً وصادماً في ذاكراتنا، سيظل يقرع فوق باب المخيال العربي بنبراته المنفعلة والمتهدجة.