ترك لنا شعراً غزيراً، فلنقرأ شاكرين

يودّع العرب اليوم صاحب «جداريّة» الذي سيرقد جثمانه في بعض فلسطين، إنما بعيداً عن الجليل. «الأخبار» تواصل احتفاءها بالشاعر الذي شكّل نموذجاً شجاعاً للعلاقة بين المثقف والسلطة، وبين المثقف والجماهير... وإن كان تحدّى الجماهير أكثر مما تحدّى السلطة

أسعد أبو خليل *
ينتابك حزن دفين في وداع كل فلسطيني وفلسطينية. تشعر أنّ العودة (الأكيدة) فاتتهم. يزداد حزنك وغضبك عندما تقرأ المرثيّات المتوالية في وفاة محمود درويش. الصحافة اللبنانية (والسعودية حيث يسرح عشّاق الأرز والبلوط ويمرحون) تحوّل المناسبة (كالعادة) إلى تعظيم مبتذل لمدينة بيروت. كأنها بمائها وتبّولَتها هي التي حولّت درويش إلى شاعر. وتقرأ رثاء طارق متري وسعد الحريري (فيما كُتب له من بسيط الكلام) فيه وتشعر بالغثيان. كادا أن يحوّلا محمود درويش إلى قومي لبناني ناشط في «تيّار المستقبل». واتصل السنيورة بأبو مازن معزياً، وكان يجب أن يعزّي أيضاً حامد كرزاي وأحمد أبو ريشا «المنتخبين ديموقراطياً» مثله. وتشعر بالاشمئزاز عندما تقرأ «تحية» جوزيف عيساوي له في نشرة آل الحريري. عيساوي (مقدّم برامج الوعظ في محطّة «الحرة») عتب على درويش لأنه لم يعتذر كفاية من... لبنان! يريد عيساوي أن يجلب درويش من القبر، ليطالبه بالاعتذار. مَن يعتذر لمن يا جوزيف عيساوي؟ يريد عيساوي من الجسد الذي أدمنته الشظايا في تلّ الزعتر أن يعتذر من ميليشيات وزير العدل اللبناني التي أحرقت مخيمات اللاجئين في لبنان. وعيساوي سيطالب الشعب العراقي بالاعتذار من الاحتلال الأميركي لتلقّف أجسادهم لقنابل ورصاص قوات الاحتلال. وموقع «إيلاف» السعودي لم يجد إلا إسرائيل لتقويم محمود درويش. والإعلام الأميركي رثاه كأنّ فلسطين كانت غير ذي بال في ذهنه، وكأن الاحتلال لم يتعرّض له يوماً وكأنّ وطنه لم يُحتل.
محمود درويش شكّل نموذجاً شجاعاً في بعض جوانبه للعلاقة بين المثقف والسلطة وبين المثقف والجماهير، وإن كان أكثر شجاعة وإقداماً في علاقته مع الجماهير. تحدّى الجماهير أكثر مما تحدّى السلطة. هو تحدّى الجماهير عندما انتمى إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فيما كان رفض الكيان ومؤسساته وعلاقاته عنواناً (غير خاطئ) للموقف من الاحتلال. وعندما ضاق ذرعاً بألاعيب الاحتلال (الديموقراطي بالمفهوم الغربي) الذي لم يتحمل... شعراً ونثراً من التغني بفلسطين، غادر وطنه المسروق إلى غير رجعة (وإن زاره عابراً في ما بعد). عاتبه الجمهور العربي ووبّخه عند الاستقبال الأول لتركِه أرض فلسطين، لكن درويش سرعان ما اندمج مع العرب خارج الوطن المسروق. خفّ العتاب واضمحلّ، ونسوا أنّه ولد وترعرع في أرضه هو، وإن أُكره على الضيق بالمكان. وفي هجرته القسريّة، في الوطن العربي وفي الغربة الغربيّة، قاوم عبادة الجمهور له. قال لهم في حفلة في الأونيسكو في أوائل السبعينيات أن يعفوه من هذا الحب. كانت شخصيته على ما يروي عارفوه لا تتفق مع الجماهيريّة. وهذا حقّه. لماذا نريد من كل شاعر أن يقرأ على وقع الطبلة والدربكة؟ وفي العالم العربي، يتحول الكاتب والمثقف المحبوب على قلّتهم هذه الأيام ــــ إلا إذا اعتبرنا ملحمة يحيى جابر في مديح رفيق الحريري ظاهرةً جماهيريّة ــــ إلى سياسي، شاء أم أبى. نذكر نموذج المناضلة جميلة بوحيرد. لم يرد درويش أن ينتهي في غربة ذاتية مثلها. تطرّفَ الجماهير في عبادة جميلة، وكُتب الكثير من القصائد فيها، وقامت ماجدة بدور البطولة (المزعجة) في فيلم مملّ عنها. هربت جميلة بوحيرد منهم ومن حبّهم القاتل، ورفضت اللقاء مع الصحافة العربية وخصوصاً مع جماهير العرب. درويش كان مختلفاً: عرف كيف يفرض حدوداً بينه وبين الجماهير. كان يعتبر أنّ الحب الحقيقي للشاعر ينعكس في تركه وشأنه... ليكتب.
وتجلّت شجاعة درويش في علاقته مع الناس في تطوّر شعره الفذ. كان ممكناً له أن يبقى أسير الشعر المبكر: الموسيقي والسياسي المباشر. هناك مَن أراد له أن يعيد إنتاج قصيدة «سجِّل أنا عربي» طيلة حياته، وأن يعيد قراءتها بمناسبة وبغير مناسبة... وهناك مَن لامه لكتابته عن الحب ــــ فالحب ممنوع عند بعض التقدميين وعند الوهّابيين والخمينيّين. لكنّ درويش أصرّ على الحب رغماً عنهم جميعاً. كان يمكن للجمهور أن يكون أكثر تقديراً له لو فعل. كان يتوجّع عندما يطلب منه الجمهور، أو يتوقّع، أن يقرأ قصائده الأولى التي اعتبر أنّه تجاوزها ـــ شعرياً. كسر قيد حب الناس الآسر، وفرض على قرائه نمطاً شعرياً متطوراً وخاصاً به. إذا كان طه حسين قد قال إنّ العربية هي شعر ونثر وقرآن، يمكن أن نزيد أنّ للغة محمود درويش حيّزها الخاص في التعبير العربي. وكان شاعراً من دون تكلّف أو تصنّع مثل الذين يبتكرون بجهد واضح، أساليب عويصة للهرب من السياسة التي تزعج آذان لجنة نوبل. كان درويش يُسرّ بالجوائز من دون أن يسعى إليها.
أما في علاقته مع السلطة، فكان أكثر التباساً وأقل شجاعة. ويجب أن يفهم معجبوه أنّ تقويمه سياسياً ممكن من دون أن يُسقط المرء موقعه الشعري والفني. ومن حقنا عليه ألا نهادنه، حياً كان أم ميتاً. وقعَ دوريش في فخ السلطة، كما وقع في فخ ياسر عرفات على كل الصعد. نفى درويش أن يكون قد قصد بعرفات «الظل العالي»، لكنه لم يخفِ أبداً إعجابه بعرفات. كتب له خطباً وبيانات وزاد عليها مناصب. وعندما عارض أوسلو، عاقبه عرفات بقسوة. وفي السياسة، أثّرت العالمية عليه عندما أدرك أنّ العدو يرصد له كل ما يكتب. والحذر السياسي لا يتفق مع إبداع وخلق درويش العظيمين. أصيب العالم العربي بعقدة العالمية منذ اكتشاف عمر الشريف (الذي انتهى منبوذاً في الغرب، ما دفعه إلى العودة وإعادة اكتشاف العالم العربي الذي كان يسخر منه سياسياً وثقافياً أثناء سنوات نجوميّته التي لم تطل). لكن محمود درويش الذي وصل إلى العالميّة في سنواته الأخيرة لم يعانِ من تلك العقدة. كان يأخذ مهنة وحياة الشعر بأقصى الجديّة، وكان يتضايق لأنّ الجمهور لم يفهم منه ذلك.
انتابت مواقفه السياسية في سنواته الأخيرة نخبويّة شبه فاقعة. لم يكن معجباً بفريق أبو مازن، لكنّ العلاقة معهم كانت أسهل من سواهم حياتيّاً. وقد حرص على عدم إزعاج وإقلاق أصدقائه في الغرب ومن بقي في إسرائيل. عارض أوسلو لكن بلين براغماتي، ينضح بالتوليف العرفاتي. ويُسجّل له في السياسة ابتعاده عن سلالات النفط احتقاره لها. وهو ترك لنا شعراً غزيراً، فلنقرأ شاكرين.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا