يُعدّ مؤلَّف الناقدة والأديبة الأميركيّة الراحلة من المراجع الكلاسيكية في المكتبة الحديثة. صدر عام 1966، ولم تتوقّف طبعاته منذ ذلك الحين. وها هو أخيراً ينتقل إلى المكتبة العربية. دعوة إلى مقاربة الفنّ بأداة البساطة والابتعاد عن... التأويل
حسين السكاف
«وحدهم الأشخاص السطحيون لا يحكمون من خلال المظاهر. إن سرّ الكون هو في ما ظهر لا في ما لا يظهر». مقولة لأوسكار واليد، اختارتها سوزان سونتاغ (1933 ــــ 2004)، لتتصدّر كتابها «ضد التأويل ومقالات أخرى» («المنظمة العربية للترجمة» ــــ توزيع «مركز دراسات الوحدة العربية»). وهذه العبارة تعبّر عن فلسفة سونتاغ النقدية: فلسفة اعتمدت البساطة أداةً وأساساً لفهم عمق العمل الفني.
يضمّ الكتاب 26 مقالاً تعدّ من أكثر مقالات الناقدة الأميركية تأثيراً وانتشاراً. وكان لتصدّر مقال «ضد التأويل» ومقال «في الأسلوب» أهميةٌ خاصة تكمن في كونهما أكثر المقالات تعريفاً بفكر سونتاغ وأسلوبها النقدي. كما ضمّ العمل مقالات مثل «ملاحظات حول ظاهرة التكلف» و«ناتالي ساروت والرواية» و«التحليل النفسي والحياة ضدّ الموت لنورمان براون»، إضافة إلى مقالات أظهرت عمق معرفة سونتاغ بالأدب الفرنسي حيث تحليلاتها النقدية تناولت أهم رموز الثقافة الفرنسية مثل المفكرة سيمون فايل، سارتر، بيكيت، كامو، المخرج جان لوك غودار، جان جينيه وغيرهم...
في مقال «ضد التأويل» الذي أعطى عنوانه للكتاب، تدعو سونتاغ إلى البساطة في تناول المعنى الذي يطرحه العمل الفني والابتعاد عن تأويلات بعيدة عن المضمون. وفي مقالها عن الأسلوب، تستشهد قائلة: «وكما ذكر وليم أيرل أخيراً، فإنّ مسرحية هاملت ليست مسرحية تتحدث عن أي شيء بالمطلق، إنما هي مسرحية عن هاملت بالتحديد، عن وضعه الخاص، وليس عن الحالة البشرية عموماً. إن العمل الفني هو نوع من العرض أو التسجيل أو الشهادة الذي يضفي شكلاً ملموساً على الوعي، وغرضه أن يجعل أمراً ما متفرداً صريحاً». وهنا تفنّد سونتاغ وبمساعدة آراء وليم أيرل، كل التأويلات التي استخرجتها أذهان النقاد ومخيّلتهم البعيدة عن الواقع، لتعيد مسرحية هاملت، مثالاً حقيقياً، إلى طبيعته الإنسانية وخصوصيته... تماماً كما تناولت سارتر في فصل «القديس جينيه لسارتر»، فتقول كتاب «القديس جينيه» «كتاب أشبه بالورم السرطاني، مطنب إلى حدّ القرف، تحمل حمولته من الأفكار المتألقة نبرةٌ من الإجلال اللزج والتكرار المروِّع... فيه يحطم سارتر كل قاعدة من قواعد اللياقة التي يلتزم بها الناقد، ويعتمد نقده الاحتجاب بدون خطوط إرشادية..». وتجد سونتاغ في هذا الكتاب العديد من المعضلات التي وقع فيها سارتر نتيجة تناوله شخصية إشكالية مثل جينيه، إذ تشير إلى معضلة فلسفية تبرِّر طول الكتاب ونَفَسَهُ المتواصل، فتقول: «يريد سارتر أن يظهر جينيه، لا أن يطلق العنان فحسب لقابلياته الفكرية التي لا تعرف الكلل، ولكنه لا يستطيع ذلك، إذ إنَّ مسعاه مستحيل في العمق. إنه غير قادر على التقاط جينيه الحقيقي، فيعود دوماً إلى تصنيفات اللقيط، واللص، والمثلي، والفرد المتبصر الحر، والكاتب».
التأويل الذي تقف ضده سونتاغ هو ذاك الذي يبتعد عن حقيقة العمل الفني وهدفه. تقول: «بالطبع، لا أعني التأويل بالمعنى الواسع للكلمة، بالمعنى الذي أراده نيتشه حين قال وكان محقّاً في قوله: «لا وجود لحقائق، بل لتأويلات فقط». أعني بالتأويل فعلاً ذهنياً واعياً يجسّد نظاماً معيناً، و(قوانين) تأويل معينة». ولم يخلُ مقال «مفكِّرات كامو» من المشاكسة والجرأة: «لا يوجد لدى كامو لا فن ولا فكر رفيع الجودة. ما يبرر الجاذبية الفريدة لأعماله جمال من نوع آخر، جمال أخلاقي، وهي صفة لم يسع وراءها معظم كتاب القرن العشرين. كان كتّاب آخرون أكثر التزاماً وأكثر تحليلاً بنزعة أخلاقية، لكن لا أحد منهم بدا أكثر جمالاً وإقناعاً في تبشيره بالمصلحة الأخلاقية». جاء هذا الرأي النقدي الخاص بسونتاغ بعدما أجرت بعض المقارنات بين كامو وعدد من الكتاب: «أثار كامو مشاعر محبة حقيقية من جانب قرّائه، فكافكا يثير الشفقة والهلع، وجويس يثير الإعجاب، وبروست وجيد ينتزعان الاحترام، إنما لا يوجد كاتب حديث، على حدّ علمي، باستثناء كامو، أثار الحب، فقد شعر عالم الأدب قاطبة بأن وفاته عام 1960 كانت خسارة شخصية».
بالإضافة إلى أهمية ترجمة مثل هذا الكتاب ولو متأخراً، يتلمّس القارئ أهمية أخرى تكمن في دقة المعلومة المضافة من مترجمة الكتاب الأستاذة في قسم اللغات والترجمة في جامعة البلمند، نهلة بيضون، من خلال هوامش منحت التعريفات الدقيقة، لمواقف وشخصيات وأحداث تاريخية، إضافة إلى تفسيرات اكتفت سونتاغ بالتلميح إليها داخل النص، وهذا ما يؤكد على أنّ المترجمة كانت تضع القارئ العربي وخصوصيته وحيرته نصب عينيها...
عن كتابها، تقول سونتاغ: «تؤلف المقالات التي يضمّها هذا الكتاب قسماً لا بأس به من النقد الذي كتبته بين عامي 1962 و1965، وهي مرحلة من حياتي تتّسم بوضوح ملامحها». ثم توضح: «على الرغم من أنني كثيراً ما أتطرّق في هذه الدراسات إلى أعمال فنية محددة، وضمناً إلى مهمات الناقد، فإنني أدرك أن القليل ممّا يضمّه هذا الكتاب يعدّ نقداً بكل ما للكلمة من معنى». لكننا حين ندخل عوالم الكتاب، نتلمّس تواضع عبارتها تلك، فالكتاب الذي لم يتوقف عن الصدور منذ طبعته الأولى عام 1966، كان له تأثيره الواسع على أجيال من القرّاء في كل أنحاء العالم.