Strong>محمد رضاالضباب يمرّ على الشاشة. الأرض مهجورة. الكاميرا تتّجه صوب خراب. أرض مدمّرة بفعل التاريخ والحروب. قلعة رومانية قديمة، تدخلها الكاميرا ثم تخرج لتقترب من أخرى. تماثيل. أجساد. رؤوس. التماثيل تمتزج مع شخوص حيّة عارية لرجال يلقون الصحون الثقيلة، والكرات الحديدية. نساء فوق صخور تطلّ على الماء، ثم تتماوج الأيدي كما سنابل القمح. يد تحمل مشعلاً وتنطلق، تسلّمه لرياضي آخر، ينطلق ركضاً إلى ثالث، ثم ترتفع الكاميرا وتطير: اليونان، بلغاريا، يوغوسلافيا، المجر، تشيكوسلوفاكيا، ألمانيا. كل ذلك على موسيقى بيتهوفن... وصولاً إلى العلم النازي وصورة حيّة لهتلر!
لا، ليس هذا الفيلم الذي أنجزه المخرج الصيني زانغ ييمو في مناسبة افتتاح الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية التي أشرف على حفلتها... إنّها للدقائق العشر الأولى من شريط ليني رافنشتول (1902 ــــ 2003) الكلاسيكي المبهر الذي حققته عام 1936 في مناسبة افتتاح الدورة الأولمبية في برلين، وبموازنة لم تبلغ نصف مليون دولار.
كثيرون يرون أنّ الفيلم لا يعدو كونه بروباغندا، فيه لقطات لهتلر وهو ينتصب مبتسماً، ومشاهد لرياضيين من أقطار مختلفة يرفعون ذراعهم تحيةً له. لكن يمكن أن نرى أيضاً أنّه ليس العرق الآري ما احتفى به الشريط، بل الجنس البشري بأسره، بدءاً بالإغريق، مطلقي الألعاب الأولمبيّة، وصولاً إلى الفرق القادمة عامذاك من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. وحين تلتقط المخرجة الألمانية مشاهد الفوز، فإنّها لا تخص الفائزين الألمان وحدهم، بل توزّع اهتمامها على باقي العناصر والألوان، بمن فيهم ذوو الأصول الأفريقية، مثل الأميركيين جيسي أوينز ووماثيو روبنز اللذين كانا في عداد رابحي الميداليات الذهبية.
ما يسجّل لليني رافنشتول هو الحالة الجماليّة التي خلقتها انطلاقاً من الأولمبياد، فإذا بهذا الاحتفاء الرياضي مناسبة لتشكيل فني رائع وتصميم تصويري مثير طوال فترة الفيلم. وبعد 72 عاماً من تلك التجربة الفريدة، ها هو المخرج زانغ ييمو (1951) يعود إلى الأولمبياد الجديد، لا لينجز فيلماً عنه، بل ليخرج حفلتي الافتتاح والاختتام نفسيهما.
سيقارن كثيرون بين ألمانيا النازيّة بالأمس، والصين التوتاليتاريّة اليوم في الحاجة إلى تمجيد العظمة على الشاشة من خلال الأولمبياد. لكنّ مَن شاهد افتتتاح الألعاب قبل أيّام، يمكن أن يتصوّر ما الذي يعنيه أن يُسند إلى سينمائي مهمّة تصميم احتفاليّة من هذا النوع وإخراجها. وإذا عدنا إلى أفلام زانغ ييمو المتعاقبة منذ 1991 حتى اليوم، نجد أنّ اهتمامه بتاريخ الصين وفولكلوره، يطغى من بعيد على أمسها القريب، أما الصين المعاصرة، فلا وجود لها تقريباً.
زانغ ييمو من المخرجين الذين أفادوا من بعض اللغط الذي أثير حولهم، لكونه من الجيل الخامس من السينمائيين الصينيين الذين اشتهروا برغبتهم في الانعتاق من قبضة الرقابة في التسعينيات. لكنه على عكس معظم زملائه، لم يعانِ ما عانوه من تعسّف وتهديد. من البداية، حفر المخرج لنفسه أخدوداً آمناً يمشي فيه بثقة، طارحاً مواضيع تنتقد الأمس وتمزج الإعجاب بتراثه وفولكلوره مع نقد أصحاب الثروات والسلطات من دون أية إحالة إلى الزمن الراهن.
بعد «ارفعوا المصابيح الحمر» (1991) و«لكي تحيا» (1994) ثم «حافظ على هدوئك» أو Be Cool حسب العنوان الإنكليزي ــــ والشريط الأخير من بين أعمال قليلة له تناولت مشكلات الحياة العصرية ــــ ازداد شغل ييمو على الأفلام التي تتعامل مع مواضيع الفروسية وفنون القتال الصينية في العصور الغابرة، كما الحال في «بطل» (2002) ، «منزل الخناجر الطائرة» (2004) و«لعنة الوردة الذهبية» (2006).
تلك المساحات الكبيرة من الأماكن، الكاميرا التي تحصد الصحارى والجبال، وتسبر غور الحدائق والقصور، تلك الألوان الزاهية. مشاهدة افتتاح الأولمبياد، من وجهة نظر سينمائي، كانت قريبة، بل استنساخاً لمجمل ما شغل به نفسه في السنوات الخمس الأخيرة من أفلام تتعامل مع التراث والتاريخ.
كذلك أنتجت هوليوود عدداً وفيراً من الأفلام التي، وإن لم تتعاطَ مباشرةً مع الأولمبياد، تناولت الألعاب التي تتألف منه، بدءاً من ألفرد هيتشكوك الفذّ بفيلمه الرائع «الرجل الذي يعرف الكثير» (1956) وتدور أحداثه على هامش الألعاب الأولمبية. ولا يمكن أن ننسى جيمس بوند في مشاهد تزلّج على الثلج بسرعة كبيرة وعلى مرتفعات خطرة وإطلاق النار في الوقت نفسه! هذه المشاهد ظهرت في مقدّمة فيلم «في خدمة مخابرات صاحبة الجلالة» (1969) الفيلم الوحيد الذي جسّد فيه جورج لازنبي شخصية بوند في حلقة ضائعة بين شون كونري وروجيه مور.
روبرت ردفورد كانت له جولته التزلّجية أيضاً عام 1974 في فيلم مايكل ريتشي المثير Downhill Racer. وقبله أنجز الراحل أنطوني مان فيلماً حربياً بعنوان «أبطال تلمارك» (1965)، يتزلّج فيه كيرك دوغلاس وريتشارد هاريس على الجليد. أما رياضة الهوكي فموجودة في بضعة أفلام أهمها Slap Shot (١٩٧٧) من إخراج جورج روي هِل وبطولة بول نيومَن... والمؤكّد أن الغواية التي تمارسها الألعاب الرياضيّة على الفنّ السابع، لن تتوقّف في المستقبل، ولعلّ ذروتها تلك المحاولة الصينيّة الأخيرة لمعانقة الأولمبياد على الشاشة الكبيرة.


السينمائي الصيني على خطى زميلته الألمانيّة البعيدة