«عودة الفينيق» مسك الختام في بيبلوس هذا الصيفعبيدو باشا
لم يستقبل منصور الرحباني لغز موت توأمه عاصي بصمت. استقبله بصخب مَن لا يريد للذكرى أن تموت. ذكرى الأخ الراحل. وذكرى واحدة من أنصع تجارب المسرح اللبناني. تجربة خاصة، فريدة، لا سابقة لها ولا تقليد. بعد انفجار رأس الشقيق، انفجرت في رأس منصور الرحباني مجموعةٌ من الأصوات الخرساء، لم تلبث أن تفتحت في مهدها الجديد. بدت النقلة كالبرطمة أولاً، ثم مضت طافية في العالم الجديد. لم تترنّح التجربة. راهن كثيرون على ذلك. خسروا، لأنّ التجارب لا تقام بالأقاويل.
آخر المفاجآت «عودة الفينيق». إنّها محطة جديدة بغطاء رحباني كبير. غطاء يرفعه منصور (تأليفاً) وابناه أسامة (موسيقى وإنتاجاً) ومروان (إخراجاً)، مع شركاء الرحابنة في طورهم الجديد (أداء غسان صليبا وأنطوان كرباج ورفعت طربيه وتقلا شمعون وبول سليمان...). طور جديد، لأنّ الجديد شيء كالحمّى. لا تلطّي خلف التاريخ هنا. هذه تهمة قديمة. المسرحية تروي طمع الممالك الأخرى بمملكة جبيل. ترك منصور الرحباني يوتوبيا الدولة ــــ حلم المسرح اللبناني القديم ــــ إلى انفجارات الدم: إنّنا أمام قضاء وقدر. قدر أن يقوم لبنان في موقعه وقضاء أن يطمع به الآخرون. موقعه كان نعمة، فأضحى نقمةملك بيبلوس لا ينفك يراسل الآخرين، ليؤمّنوا حمايته في السلطة. إنّهم ذاتهم مَن يطمعون بمملكته. هكذا يكتشف الجبيليون أن «رب عدي» غائص إلى حوضه بالدوران في عواصف المجهول عبر الاستقواء بالآخرين. هكذا يكتشف الجبيليون أنّهم أمام إحدى المراحل الصعبة ــــ المتحوّلة في تواريخهم المتعاقبة. إذ ذاك يتعافون من خوف الملك، قبل أن يأمروا أنفسهم بالمقاومة. عندها، تُرفع سلسلة من العمليات يقودها شاب جبيلي يغرم ــــ بلا موعد أو قصد ــــ بروكسان ابنة الملك. وحين تفشل المقاومة بتطريز عملياتها بالنصر، تحرق المدينة نفسها بنفسها،
لا ضرورة بعد ذاك لإسقاط الأوضاع القديمة التي لامست القاع على الأوضاع الجديدة التي تضاهيها سوءاً. لا يدعو منصور الرحباني إلى إحراق البلاد. بل يحذّر من أن تصل إلى إحراق ذاتها بذاتها. ولا يريد له أحد أن يصيب اليوم. لأنّه طالما أصاب. «حكم الرعيان» نبوءة ولو أنّني لا أحب النبوءات. «آخر أيام سقراط» نبوءة أيضاً. ولو أنّني لا أهوى النبوءات. كانت صرخة إنذار، تنادي على الآخرين ليسمعوا وينتبهوا في أجواء جمالية باهرة. أجواء مشهدية وموسيقية باهرة. أجواء تساعد على الاغتسال من الذاكرة القديمة والطازجة لمصلحة “أجندة” جديدة.
لم يعد منصور الرحباني يوماً بجبال حلوى وحمامات أحواض طويلة. أسامة مثله أحد أبرز المتمرّدين على ذاته وتراثه من دون تطليق التراث والتاريخ. إنّهما يقدمان بنية كاملة. بنية ناهضة يوماً بيوم بكل ما هو جديد وحداثي. مدهش الزواج بين الحكاية التاريخية وأحدث الاتجاهات الموسيقيّة. موسيقى أتمّت نضوجها على يد شاب مغامر يحب التحدّي. إنّه ليس رائداً من رواد الموسيقى الجديدة، بل أحد أبطالها. موسيقى على ضفتين: ضفة الطقوسية القصوى وضفة الحداثة القصوى. بصوتين: غسان صليبا، وهبة طواجي. غسان صاحب الصوت المختمر، وهبة صاحبة الطلة الجديدة. اكتشاف آخر من أسامة الرحباني.
لم يخِفه هنا أن يأتي بصبية صغيرة ليخيط لها ملابسها الجديدة، بعدما خلعت توّاً فساتين البوبلين الأبيض. إنه خيّاطها. دائماً يفتح الشاب خزانةً جديدة بكل مسرحية جديدة. رهانه: هبة طواجي، وهي رهان مضمون لكل مَن سمعها في «دويتوهاتها» الصعبة مع غسان صليبا. وبالأغاني الملحّنة خصّيصاً لها. «دويتوهات» ثقيلة بالقياسات الموسيقية. وهناك أغنيات ثرية، مثيرة، تستثمر العولمة على الصعيد الموسيقي، كي لا تُهزم بالمحلية المحضة. أجملها «متل الريح وحامل عطر بلادي». كل ذلك تحتضنه بنية بلا زلات قدر وبلا انطباعيات.
مروان الرحباني لا يهوى الانطباعيّة. أجواؤه واقعية تسافر إلى سحر لا يقاس بضروب السحر العادية. «عودة الفينيق» مسرحية واقعية سحرية بمرايا من ذهب، متألّقة بروح منصور الرحباني الشابة، وخبرة مروان المختمرة، ومغامرة أسامة النائية عن منطق الخدمات.
يدخل اللبنانيون إلى جبيل في «عودة الفينيق» بالحلم أولاً. ثم عبر لعبة المرايا السياسية والاجتماعية، لكي يشاهدوا قصراً يعلو هضبة، وهضبة مغروزة في أرض مهددة بافتتان الآخرين بها. أدراج مرمر، وقاعات فسيحة مضاءة بقبب جليلة مخفية في سقف العالم. شعور فائق بالافتتان يلوّن المسرحية التي تقوم على لعبة المتوازيات والمتغايرات. كل ما في «عودة الفينيق» شرس، طيب، رقراق. كل ما فيها ضد النمط. استعمال الأصوات جديد غاضب بلا عجرفة. «الأوركستراسيون» طبقات تنتهي بسطح واحد. الأداءات درامية تنضح بخصوصية المسرح الرحباني. القطع الكورالية روحها روح قيامة مستمرة. نصيحة مهمّة:لا تفوّتوا البداية: مقتل أدونيس. لأنّ كلّ شيء ينبع من هذه اللحظة. اللحظات الأولى مهمّة. لن ينسى أحد أبرز وجوه المسرح اللبناني: أنطوان كرباج. لن ينسى أحد النتائج الباهرة لعمل الثلاثي الرحباني مع مئتي ممثل وممثلة، وراقص وراقصة.
على منصور الرحباني ينطبق المثل: زند طيب، خيال واسع. ما يكفي لصنع جمالية مهيمنة، متسلّطة. وستائر لا تفتح فقط بدقات المسرح الثلاث بل بدقات القلب.


«عودة الفينيق»: 8:30 مساءً، ابتداءً من اليوم حتى 24 آب (أغسطس) الحالي ـــــ مهرجانات بيبلوس الدولية ــــ
www.byblosfestival.org


من «صيف 840» إلى «زنوبيا»... الملحمة مستمرّةوفي عام 1994، قدّم «الوصية» التي لعب بطولتها أيضاً غسان صليبا وهدى حداد. أما «آخر أيام سقراط» (1998)، فشاركت فيها الفنانة كارول سماحة مجسّدةً دور زوجة المعلّم والفيلسوف اليوناني التي ما انفكّت تضطهده بسبب انشغالاته الفكرية. بعد ذلك، ذهب منصور إلى النص اللاهوتي في «وقام في اليوم الثالث» (2000) لينتقل مجدداً إلى سير الشخصيات التاريخية في «المتنبي» (2001) وفي العام نفسه قدّم «ملوك الطوائف» التي لا تخلو من الإسقاطات على الراهن اللبناني. إذ تناولت الملوك العابرة التي كانت تتناحر في ما بينها، متأصلة بالطائفية، والتمييز العنصري... أما «آخر يوم» (2004)، فتُعد نسخة جديدة من روميو وجولييت. وفي عام 2004، قدّم منصور «حكم الرعيان» الذي عاد ليتناول الصراعات التاريخية ويحيلها على الواقع العربي الرديء. كما تناول نصّ جبران خليل جبران في «النبي» (2005). وأخيراً، قدّم السنة الماضية مسرحية «زنوبيا» الغنائية التاريخية الملحمية وتناولت ملكة تدمر وصراعها للحفاظ على مملكتها من الغزاة والطامعين