وحده يختصر تحوّلات القاهرة منذ الأربعينيات. غيابه، بعد المسيري وشاهين، يترك شعوراً بالوحدة. كأن الموت في مصر يأخذ تعليماته من اللجنة السياسية للحزب الحاكم!
وائل عبد الفتاح
الخبر لم يكن صدمة مباشرة. لكنّه مؤلم. حسن سليمان (1928) لم يعد موجوداً. افتقدنا شيئاً كبيراً جداً. هو آخر «أسطوات الفن» كما قال الرسام عادل السيوي. وحسن سليمان «أسطى» فعلاً. تعلّم على يد أساتذة كبار مثل أحمد صبري، وأصبح واحداً من رسّامي مصر الكبار. اللوحة أمامه ساحة معركة، انتصاره فيها هو الوصول إلى أعلى درجة من الإتقان. معلم يمتلك موهبة. يضعها كلّها في ترسيخ أصول الفنّ. وهذه نوعيّة تنقرض الآن في مصر.
غياب حسن سليمان من هذه الزاوية يترك أسى وشعوراً بالوحدة. إنّه إشارة جديدة بعد يوسف شاهين إلى أنّنا سنواجه العالم، من الآن فصاعداً، من دون الصنّاع المهرة للبهجة والحياة الجميلة والواسعة. زمن كاملٌ ينسحب بهدوء، كأنّ هناك مَن قرّر أن نواجه وحدنا العصر المربك الذي نعيش. لم يكن زمن حسن سليمان جميلاً بالمعنى المبتذل، لكنّه زمن تأسست فيه مصر أخرى راهنت على الحضارة رغم أنّها كانت محتلة. وعرفت، وهي تبحث عن الاستقلال، أن تلتقط أطياف ثقافة وحياة، أضافتها إلى حضارتها القديمة. من هذه الأجواء، خرجت أعمال طه حسين ومحمود سعيد وتوفيق الحكيم وبعدهم نجيب محفوظ ويوسف شاهين ويحيى حقي.
عاش ٨٠ سنة بالطول والعرض، ونال شهرة واسعة منذ معرضه الأول. لم يكن رساماً فقط، عمل ودرس في المسرح والسينما، وكتب دراسات في تعليم الجمهور الواسع كيف يتواصل مع لوحة. ليس هذا فقط. كان مرشداً إلى قاهرة مختلفة، تمتزج فيها الأرستقراطية بالشعبية. خلق حالة أرستقراطية خاصة بحسن سليمان العارف بالحواري والأزقة، والخبير بدروبها. القاهرة مختلفة بغيابه. هذه ليست مبالغة الموت، لكنها حقيقة مؤلمة، الألم نفسه الذي اختار حسن سليمان أن يودّع به الحياة وحيداً، إذ يرفض ـــ حسب وصيته ـــ طقوس العزاء.
وحدهما عادل السيوي وبهاء طاهر كانا مع مساعدته لحظة العودة إلى التراب. لحظة ثقيلة كسرتها سخرية بهاء طاهر من ملاحقة الموت لشخصيات مثل عبد الوهاب المسيري ويوسف شاهين ثم حسن سليمان. قال بهاء: «يبدو أنّ عزرائيل يأخذ أوامره من لجنة السياسات». فالشخصيات الكبرى التي غيّبها الموت أخيراً، من حلقة الرافضين الذين لم يتصالحوا مع الوضع القائم. كل مارس التمرّد بطريقته، ومن زاوية مختلفة عن الآخرين... لكن يجمعهم القلق والمقاومة وعدم المهادنة مع الانحطاط الذي نعيشه. وهذا سر آخر من أسرار الحزن على غياب حسن سليمان.
أعاد ترتيب حجرته، ووضع السرير في مواجهة النافذة ليرى آخر أضواء تلمَس القاهرة كل صباح. هذه رغبات حسن سليمان في أيامه الأخيرة. كان يبحث عن أسلحة لمقاومة المرض الذي يتقدّم في جسده، كما تقتحم المدينة قاهرة جديدة غير التي عرفها في الأربعينيات. لقد غيّرت جلدها، وعاش هو تحولاتها: من مدينة تصنع بهجتها إلى مستعمرة للتعاسة.
روحه كانت لا تهزم بسهولة. ساخط وغاضب ونرجسي وعنيد. أناني ومتعالٍ، ينظر إلى القاهرة من نافذة مرسمه المشحون بتاريخ خاص: فالمرسم كان بيت أحمد بن بيلا أيام المنفى في القاهرة... وبين ممرات الكتب، ستلتقط حكاية عن اللقاء مع فيلسوف الوجودية الشهير جان بول سارتر أثناء زيارته القاهرة في الستينيات. لم تكن المسافة واسعة جداً بين القاهرة وباريس. كما لم يستقبل مثقفو القاهرة سارتر بانبهار كامل. لم يكن الإعجاب أو الاختلاف من موقع المتفرجين. كانت الروح حرةً مشحونةً بطاقات تكاد تختفي الآن. في بيت حسن سليمان، حكايات أخرى عن ولي الدين سامح، فنان من مؤسسي صناعة المناظر في السينما. كان أستاذه وأستاذ شادي عبد السلام في الملابس والديكور، لكنه هاجر إلى ألمانيا واختفى. كان سفره هروباً من تحوّلات القاهرة التي أصبحت مدينة ضباط بلا روح. قاهرة الأربعينيات والخمسينيات اختفت تدريجاً وتحوّلت إلى مدينة كوارث سياسية.
وهذا هو المؤلم في غياب حسن سليمان، فهو علامة على تلك القاهرة التي عشقناها ولم نعشها. هو حارس من حراسها المفتونين بسحرها. لم يتصالح مع أحوالها الجديدة. القاهرة وحيدة الآن تفقد كل يوم واحداً من حراسها (نجيب محفوظ ثم يوسف شاهين والآن حسن سليمان وغيرهم) ماذا ستفعل القاهرة الآن من دون حراس؟