إنّها قصّة موسيقي وُجد مقتولاً قرب نهر دجلة في بغداد ٢٠٠٦. في «حارس التبغ»، يأخذنا الروائي العراقي الذي يحتل موقعاً خاصاً فوق خريطة الأدب العربي، في رحلة عبر الجهات والمدن والجماعات... مفكّكاً لعبة الأقنعة التي اعتمدها بطله للتأقلم مع التاريخ العراقي الحديث
سعد هادي
في الصفحات الثلاث الأولى من روايته «حارس التبغ» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، يقدّم علي بدر ملخّصاً لكلّ ما سيرد لاحقاً من أحداث، موضحاً أنّ جثة الشخصية الأساسية في روايته وُجدت مرميةً قرب نهر دجلة عام 2006. ويورد أنّ اسم كمال مدحت الذي تحمله هذه الشخصيّة ليس اسمها الحقيقي، وأنّها تقمّصت ثلاث هويات... ثم يروي تحولاتها وسط خضمّ من الأحداث التاريخية. ويضع بدر تلك التحوّلات بموازاة تحوّلات الشخصية الواردة في ديوان «دكان التبغ» للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا الذي يعثر على نسخة منه في بيت كمال مدحت في بغداد، وعليه تعليقات كثيرة.
الراوي الذي ترسله صحيفة أميركية ـــ بصفته Black Writer ـــ لكتابة ريبورتاج عن القتيل، وهو موسيقار عراقي مشهور ظاهراً، لم يدرك أهمية الديوان الذي وجده في منزل كمال مدحت. لكن بعد قراءته، يجد فيه الكثير من أسرار الراحل والمفاتيح الأساسية لحلّها. إذ إنّ بيسوا يقدّم في الديوان ثلاث شخصيات مختلفة تعبّر عن ثلاث حالات تقمّص، وكل شخصية هي وجه من وجوه الشاعر، يخترع لها اسماً وحياةً وقناعات مختلفة.
لعبة الهويات المستعارة يوظّفها علي بدر للتعبير عن سياقات تاريخية مهيمنة تبدِّل هويات الأفراد والجماعات، وتعيد صياغتها باستمرار. إذ إنّ «يوسف صالح»، القناع الأول للشخصية، عاش صراع الهويات في الشرق الأوسط، ليكتشف أنّ هذه الهويات تنذر بنهاية كل شيء. كان العراق يغرق شيئاً فشيئاً، والهزائم تتوالى، والإيديولوجيات تفترس بعضها. هكذا يهاجر يوسف صالح، اليهودي العراقي، مرغماً إلى إسرائيل في الخمسينيات. لكنّه يتركها إلى إيران ليصبح «حيدر سلمان»، وهو موسيقار ولد في عائلة شيعية متوسطة، ارتبط بالحركة الشيوعية في الستينيات. ويتساءل الروائي: هل أصبح حيدر سلمان من داخله مسلماً أم هو ريكاردو ريس (إحدى شخصيات ديوان «دكان التبغ») الذي يؤمن بالآلهة على رغم أنه يعيش في أوروبا المسيحية؟ إن الكشف والتجلي هما من بين خصائص الشخصية الثانية في الديوان، ولقد انبهر الراوي حين رأى أنّ تصورات سلمان تحققت، وأنّ شخصيته المستعارة تمتلئ بالحياة. إن الأمر يتعدى تأدية دور، إنّه إثبات شخصية أخرى أخذها على عاتقه.
علي بدر، ومن منطلق فلسفي (ربما)، لا يعير اهتماماً لما يفترض أن تواجهه الشخصيات الثلاث في تحوّلاتها، من ثغرات يولّدها السرد في تلاحق تفصيلاته. إن تكرار شخصية الموسيقي بالملامح ذاتها، وبسلوكها الذي لا يطرأ عليه أي تغيير... وفي الوسط الاجتماعي الذي يعرفها وتعرفه، يجعل القارئ يتساءل: ما الذي يمنع الآخرين من اكتشاف هوية الشخصية الحقيقية أو سرها المضمر؟
في لحظات كثيرة فاصلة في الرواية، هناك صراع بين رؤى الشخصية ومحيطها الخارجي. لكن هذا الصراع لا يتعلق بالوجود المادي، أو المسار المنطقي للأحداث، بل بالمعتقدات والآراء والأفكار، وبتأويل ما يحدث في الخارج على الكيانات الاجتماعية أساساً، قبل الاهتمام بمصائر الأفراد. ولا يعني ذلك أنّ الشخصية الأساسية تضمحل أمام تحوّلات المحيط الخارجي. إن «كمال مدحت»، الشخصية الثالثة (وهو كما يفترض سنّي مولود في الموصل)، يتحول إلى نجم في الوسط الثقافي البغدادي في الثمانينيات، ويشارك في عزف سمفونية «الشهيد» لوليد غلمية... كما يُقدَّم لصدام حسين. وهو يوصف أيضاً كقديس خاطئ صنع نوعاً من اللقاء القسري بين جميع شخصياته. وقد جعل من الموسيقى آلة دينامية لتعديل مزاجه ومبادئه، باعتبارها شكلاً من أشكال الاغتباط العنيف.
إنه حمل خلاصات مدن كثيرة في داخله، فإن قصَّر في إنتاج هوية مثالية، فقد تجاوز هذا النقص بالنساء والموسيقى. وهو رغم شيخوخته (يكون في الثمانين عندما يُقتل) يشتهر بحياته المتهتكة المنطلقة التي تتناقض مع البعد الفلسفي للرواية. تلك الحياة التي لا تراعي أي تقليد: لقد اشتهر بكثرة عشيقاته، وأصبح أسطورة جنس متنقلة!
وعلى رغم حرص علي بدر على ربط مصائر شخصياته بالتاريخ، فهي تدخل إليه وتخرج منه لتبرير تحولاتها الروحية وتحولات محيطها الاجتماعي. إلاّ أنه يقع في أخطاء متتالية، لعل أفظعها، ما يذكره عن احتفالات في بغداد بعيد النصر في أغسطس 1990، وإن كمال مدحت رأى صدام حسين للمرة الثانية، واصفاً إياه بأنه كان سعيداً... أما تاريخياً، فقد كان صدام في ذروة انفعاله في مكان مجهول، بعد اجتياح الكويت، وكان العراق تحوّل خلال ساعات الى أخطر بؤر التوتر في العالم.
في الصفحات الأخيرة، يعود أبناء «حارس التبغ» الثلاثة من منافيهم. مئير، ابنه من زوجته الأولى فريدة (اليهودية)، جاء مع القوات الأميركية، يحمل أفكار الديموقراطية، وحسين عاد من طهران مع الحركة الإسلامية الشيعية. أما عمر الذي كان في مصر، فقد عاد (على حد قول المؤلف) حاملاً حقداً لخروج السُنّة من السلطة. حينئذ يتذكر كمال مدحت قصيدة بيسوا، أبناؤه هم شخصياته الثلاث أيضاً: هم أسماؤه وحالات تقمصه. لقد كان كل وجه من تلك الوجوه يطابق هوية من هوياته المفترضة. وهم على العكس منه، شخصية واحدة منفصمة ومتعددة في آن. إنهم لوحة تكعيبية بثلاثة أبعاد لوجه واحد.
يعود الروائي أيضاً في الصفحات الأخيرة ليصف ما يحدث في المنطقة الخضراء في بغداد، متابعاً ما يقوم به كتّاب من فئة الـ«بلاك رايتر» Black Writer وهم كتّاب مجهولون يقدّمون تقاريرهم عما يحدث في مناطق الصراع الخطرة للصحافيين المشهورين، فيضع هؤلاء أسماءهم عليها لتنشر في جرائد الغرب الكبرى، فيما هم يجلسون في فنادق عمان وبيروت. إن لعبة الهويات تستمر أثناء ذلك، فثمة دائماً كائن خفي يقبع خلف الوجه المعروف. كما أن اللعبة الروائية، بكل ما فيها من تداخلات، تقع في الإطار نفسه. إنها لعبة تلفيق وافتراضات وتأمل وتأويل ومعرفة بالتاريخ، وجهل ببعض فصوله، وخيال مفرط يجد تجلياته وسط التناقضات، وأثناء الكشف عن تحولات الفكر والصراع المحتدم أبداً بين مصائر البشر وأحلامهم.