من الباروك الألماني حتى الشعبي الإسباني مروراً بالحقبة الرومنطيقية... عازف البيانو اللبناني عبد الرحمن الباشا اختتم آخر أمسيات «مهرجانات بعلبك الدولية»، وخصّ معبد «باخوس» بمعزوفة تحمل اسمه
بشير صفير
ختمت «مهرجانات بعلبك الدولية» برنامجها أول من أمس مع أمسية موسيقى كلاسيكية أحياها عازف البيانو اللبناني عبد الرحمن الباشا. في معبد باخوس، احتشد العشرات من محبي الموسيقى الكلاسيكية، وبعضٌ من محبي الحفلات عموماً (!)، للاستماع إلى أنغام البيانو التي عكّرتها أصوات المفرقعات ورشقات الرصاص الآتية من محيط القلعة. حوى البرنامج في الجزء الأكبر منه مقطوعات موسيقية معروفة جداً من الملمّين بالحد الأدنى بريبرتوار البيانو: من الباروك الألماني مع جان سيبستيان باخ حتى الشعبي الإسباني مع إسحق ألبينيز والانطباعي الفرنسي مع موريس رافيل، مروراً بالحقبة الرومنطيقية مع المؤلفيْن اللذين يمثّلان اختصاص الباشا، بيتهوفن وشوبان... بالإضافة إلى مقطوعتين للمؤلف اللبناني الراحل توفيق الباشا.
إذا أردنا تقويم الأمسية عموماً، يمكن القول إنّ أداء الباشا جاء كلاسيكياً، جيداً جداً، لا يقدّم جديداً لمن اعتادت أذنه التسجيلات التاريخية لهذه الأعمال. لكنه، من جهة ثانية، لا يمكن تسجيل ملاحظات سلبية عليه. بمعنى آخر، أتى أداء الباشا أميناً للأعمال التي اختارها، وأميناً لمستواه العام في عالم الأداء، وهو مصنَّف من النقّاد العالميين بأنه أكثر من جيّد وأقل من استثنائي. وهنا تجدر الإشارة (للأمانة) إلى أنّ هذا التصنيف يأتي بالمقارنة مع عمالقة البيانو في القرن العشرين الذين تركوا تسجيلات يصعب تخطّيها فعلاً.
عزف الباشا من عند باخ مقدّمة من الكتاب الثاني مما يُسمّى «العهد القديم» في عالم البيانو، أي Le Clavier Bien Tempéré. بعد باخ، أتت سوناتة البيانو الرقم 14 لبيتهوفن (المعروفة باسم «ضوء القمر»)، تلتها السوناتة الثانية لشوبان، بالإضافة إلى الـ Impromptu الرقم 3. بعد الاستراحة، قدّم الباشا أعمالاً متفرقة للبيانو لرافيل وألبينيز (من «إيبيريا»)، وأدرج بين الاثنين عملين من تأليف والده الراحل توفيق الباشا، مثّلا المحطة الأجمل في الحفلة، ليس لأنّهما أعلى مستوىً في الجمال من الأعمال الأخرى، بل لأنّهما قدّما لحظات جديدة، لا نعرفها من قبل، ولكن نعرف أنها جديرة بالاحترام (وخصوصاً المقطوعة التي حملت عنوان «روندو عربي»). أدّى الباشا أعمال والده بإحساس فريد معروف مصدره، أضفى طابعاً خاصاً إلى مقطوعات شديدة التماسك (ولو أنّها كلاسيكية في بنائها الهارموني) من حيث التركيبة والتوازن بين ما كُتِب لليد اليمنى وما قابله من اليسرى.
صفّق الجمهور طويلاً للباشا في الختام، فعاد إلى آلته وردّ التحية بمعزوفتين إضافيتين. الأولى من تأليفه (حيث التأليف استثناء في حياة العازفين الكبار)، حملت عنوان «باخوس»، تلاصقت اسماً بالمكان أكثر منه بالقيمة الجمالية العامة للأمسية، وهي تنتمي إلى تجربة برعمية ذات منحى محافظ. أما الثانية، فهي المقدمة الرقم 5 (من المصنف الرقم 23) لراخمانينوف، أتت عادية إجمالاً، لكن الباشا قدّم في جملتها الختامية أداءً تقشعر له الأبدان.