وكيل وزارة الثقافة اغتاله مسلّحون في بغداد

بعد ظهر السبت الماضي في شارع محمد القاسم السريع على جانب الرصافة من بغداد، اعترض مسلّحون سيارته العائدة من شارع المتنبّي حيث ذهب لشراء بعض الكتب. أطلقوا عليه النار بكواتم الصوت فأردوه قتيلاً، وجرحوا سائقه. إنّه موتنا يهيم في شوارع المدينة...

بيار أبي صعب
الخبر الذي انتشر بسرعة خارقة ليلة السبت على الإنترنت لا يشبهه. لا، إنّه رجل آخر ذلك الذي تتحدّث عنه وكالات الأنباء، سيارة وسائق، مسلحون وكواتم صوت. هاتف فيصل مغلق في لندن، أرسلت له “إيميلاً” عاجلاً من باريس: “أرجوك قل لي إن هناك سوء تفاهم، إن القتيل شخص آخر. إن الرسالة الفظيعة التي وصلتني من كوبنهاغن مغلوطة”: «لقد كلفتموني من قبل أن أجري حواراً مع الكاتب والباحث العراقي، صديقنا المشترك، كامل شياع. لكنني، بكل أسف، تلقيت الآن خبر استشهاده» كتب حسين، ببساطة طقوسيّة.
ما زلت أذكر لقاءنا الأوّل في بروكسيل مطلع التسعينيات، في «مقهى البورصة» تحديداً، مقصد روّاد «كونستن مهرجان الفنون» الذي أتيت للمشاركة فيه. قبل أن أترك لندن إلى العاصمة البلجيكيّة، أوصاني زميلي فيصل عبد الله ــــ بإلحاح شديد ــــ بأن أتعرّف إلى أخيه كامل، المثقّف والأكاديمي والإعلامي، والاختصاصي في الفلسفة: «أنا متأكّد من أنّه سيعجبك. ستصبحان صديقين عزيزين!». كاد الموعد يضيع في زحمة المهرجان المسرحي. لكن كامل أصرّ على أن نلتقي. كان يأتي من مدينة أخرى إلى العاصمة، واختلينا في زاوية هادئة من البورس كافيه، زمناً يستعصي على القياس. أعدنا بناء العالم. أذكر أننا تحدثنا عن بيروت وبغداد. عن الديكتاتوريّة والتغيير. عن الفكر العربي والخيار العقلاني. تحدث ملياً عن حسين مروّة الذي بدا أنه يعرفه عن ظهر قلب. تحدثنا أيضاً عن «اليوتوبيا»، موضوع دراسته الجامعيّة: «اليوتوبيا موقفاً نقديّاً». ثم تركت هذا الشاب الهادئ، الباسم، الذي يقطع بحدّة مع الكليشيه الأبله السائد عن «العنف الملازم للشخصيّة العراقيّة». كان رقيقاً وباسماً، شعرت بأنه بلغ مرتبة عالية من الأنوثة. أذكر أنني لفتت نظره إلى الموضوع وضحكنا. تركته كأنني أودّع صديقاً أعرفه من أيّام المراهقة والأحلام السياسيّة الأولى بالتقدّم والتغيير، على أمل أن تجمعنا لقاءات كثيرة أخرى. وهذا ما كان فعلاً.
لدى عودتي إلى لندن، كان أوّل شيء فعلته الاتصال بفيصل. «يا أخي، كامل شخص استثنائي، بوعيه ونضجه، شفافيّته وهدوئه. نموذج لتلك النخبة التي حبّذا لو يقدّر لها يوماً أن تمسك بزمام الأمور في العراق». كان في كلامي المتعلّق بالعراق الكثير من الرومنسيّة واليوتوبيا، فنحن في عزّ طغيان نظام صدّام حسين الذي كنا نخاله أبديّاً. عرفت لاحقاً أن فيصل نقل لأخيه تلك الشهادة المنبهرة، فقد ذكّرني بها عندما اتصلت هاتفيّاً، ذات يوم من عام ٢٠٠٤ اعبّر عن دهشتي من (بل تحفّظي على) قراره العودة إلى بغداد بعد سقوط الطاغية. لم تكن خطوة بسيطة بعد ربع قرن في أوروبا. لم تكن بلاداً محرّرة، بالمعنى الحقيقي الذي يصبو إليه ذلك الشاب الخمسيني المتحمّس. هنا ذكّرني بأن وقته قد حان، عملاً بنبوءتي الشهيرة قبل عقد ونيّف!
خلال ذلك العقد الذي يفصل لقاءنا الأوّل عن قرار العودة، التقينا مراراً، وتواصل حديثنا عن العقلانيّة والتغيير. عن الأدب والحياة والحبّ أيضاً. كان يتحدّث بشغف مطعّم بالخفر غالباً، عن آخر المؤلفات الفلسفيّة أو النقديّة في لغة الضاد. راح ينشر في المجلّة التي أشرف على قسمها الثقافي مقالات فكريّة محكمة، وقراءات ونقاشات تخاطب في الوقت نفسه القارئ غير المتخصّص في الفلسفة. كتَب عن محمد عابد الجابري وهشام جعيّط، وناقش جورج طرابيشي وكثيرين غيرهم، بلغة غنيّة ومتينة، قريبة وواضحة رغم تعقيد النصّ وخلفيّاته ومرجعيّاته.
ثم كانت نقاشاتنا بشأن العودة إلى بغداد تحت الاحتلال الأميركي. ما زلت أحتفظ ببعض الرسائل الإلكترونيّة التي كانت تصلني من [email protected] : «لقد تغيرنا جميعاً بضربة ساحر أمريكي أحمق وخطر، وعلينا أن ندرك ذلك. كل الأيديولوجيات النائمة في أذهاننا تحتاج اليوم إلى زحزحة وتهشيم، كلنا مطالب بأن يرى الآخر فيه، أن يصغي للقوة المغايرة داخله، حتى لو بدت هادئة وسويّة». ذات يوم طلبت منه نصّاً عن ذلك المفترق الحاسم في حياته، وكتبه بالفعل كي ينشر في مجلّة «زوايا»، ربيع ٢٠٠٤ (راجع النصّ في مكان آخر من هذه الصفحة).
عاد كامل شياع لأنّه رأى أن دوره قد جاء، وأن التاريخ لا يخلق لنا الظروف المثاليّة التي نشتهيها كي نشمّر عن زنودنا، فننتقل من التنظير إلى أداء دور ما على أرض الواقع. هنا فقط عرفت أنّه كان شيوعيّاً. خلال سنوات صداقتنا لم يذكر مرّة هذا التفصيل بصفته أمراً يستحق التوقّف عنده. كان يدافع عن أفكاره التقدميّة والتنويريّة، مستنداً إلى خلفيّة ماركسيّة واضحة، بعيداً عن أي دوغمائيّة. في بغداد، صار وكيلاً لوزارة الثقافة، من ضمن خيار الشيوعيين العراقيين المشاركة في السلطة. كان يحدثني عن جيل مثير من الشباب، لا بدّ من أن ننشر لهم في الخارج، وعن مشروعه في إحياء مجلّة «الثقافة الجديدة»... كذلك أسس مع آخرين «جمعيّة إحياء الثقافة العراقيّة».
دعوته ذات يوم إلى بيروت التي كان دائماً يعد بزيارتها، للمشاركة في «لقاء زوايا» (١٣ ـــــ ١٦/ ١١/ ٢٠٠٥)، ضمن مجموعة من الفنانين والكتّاب الذين يمثلون تباشير تلك الرؤية البديلة للعالم العربي مطلع القرن الجديد. كانت المرّة الأخيرة التي التقي فيها بكامل. أذكره جالساً إلى يسار الخشبة في الصالة الصغرى لـ«مسرح المدينة» (سينما «متروبوليس» لاحقاً)، يشرح لنا كيف أنّه استبدل مفهوم الطبقة بفكرة «المجتمع المدني» الذي يمثّل قوى وسطيّة متنوّرة مشحونة بقيم تقدميّة كحقوق الإنسان والحريات، والتعددية والاختلاف، والديموقراطيّة والعلمانيّة.
كل تلك الأفكار والمبادئ حملها معه إلى المعترك. بعد مرحلة الحماسة الأولى في موقعه الجديد، تراجعت الأوهام واصطدم بالواقع. تغيّر وزراء الثقافة أربع مرّات، ولمس بأم العين كيف أن التوازن طائفي وعشائري، والوصاية أميركيّة، وقهر الناس تحوّل في الشوارع إلى عنف دمويّ وعصبيّة عمياء. أين كل ذلك من فكرة المواطنة والمجتمع المدني؟ ما همّ، المثقف التنويري المؤمن ببناء دولة حديثة في العراق لن يتراجع. سيستأنف مشروعه الطوباوي، المثالي، حتى الرمق الأخير.
عند الثالثة من بعد ظهر السبت الماضي بتوقيت العراق، في شارع محمد القاسم السريع على جانب الرصافة من بغداد، وقد كان مسرحاً لتصفيات واغتيالات عدّة خلال الفترة الماضية، اعترض مسلـّحون ــــ تقول الوكالات ــــ سيارته العائدة من شارع المتنبّي حيث ذهب لشراء بعض الكتب. أطلقوا عليه النار بكواتم الصوت فأردوه قتيلاً، وجرحوا سائقه. إنّه موتنا يهيم في شوارع المدينة. كامل شيّاع عبد الله (الناصريّة/ ١٩٥١ ـــــ بغداد/ ٢٠٠٨)، سقط عن الآخرين، عراقيين وغير عراقيّين، ممن يحلمون بعالم عربي آخر، أكثر عدالة واستقراراً وانفتاحاً. إنّه شهيدنا جميعاً، شهيد «اليوتوبيا» العربيّة المعاصرة.