في كتابه الجديد «رأس اللغة جسم الصحراء» (دار الساقي)، يمزج الشاعر الكبير مقالات وتأملات وشذرات تعالج مواضيع شتّى: من لبنان المجتمع المدني والفضاء المختلف عن محيطه العربي، إلى الإسلام والأصولية الثقافية العربية... مروراً بالشعر اليومي
حسين بن حمزة
يضمّ كتاب «رأس اللغة جسم الصحراء» (دار الساقي) مقالات وتأملات وشذرات كتبها أدونيس في أوقات ومناسبات مختلفة. لكن ما الذي يجمع هذه المواد كلّها؟ اسم صاحب الكتاب هو الجواب البديهي في حالات كهذه. لكن ثمة إضافة ضرورية هنا. أدونيس ليس مؤلف متفرقات كتابه فحسب، بل هو ــــ شاعراً ومفكراً ومثير أسئلة من العيار الثقيل ــــ موجود طيَّ كلِّ سطر فيه. نادراً ما يخوض أدونيس في مسائل لا صلة لها بسيرته الشخصية والشعرية والفكرية. حتى المسائل المستجدّة تتطبّع بمزاجه ونبرته، وتتسرب بسرعة إلى منظومته السجالية وتصبح جزءاً منها.
لهذا يمكن القول إنّ المادة الأدونيسية التي خبرناها في كتاباته الشعرية وغير الشعرية حاضرة بكثافة في إصداره الجديد. لا نجد في الكتاب قصائد خالصة ولا أطروحات فكرية وثقافية كاملة. لكن ثمة مذاقات وأطياف وجُذاذات أدونيسية مدسوسة في الكتاب كله. ما نقرأه هو تعليقات واستطرادات على الأطروحات الأساسيّة التي قدّمها أدونيس في مؤلفاته الكبرى: «زمن الشعر» (1972)، «الثابت والمتحول» (1973) و«فاتحة لنهايات القرن» (1980)، وغيرها.
يخصّص أدونيس القسم الأول من الكتاب لفكرة المنفى. يضم هذا القسم شهادة شخصية يؤكد فيها الشاعر أنّ المنفى ليس شيئاً يضيفه إلى حياته، بل هو حياته نفسها. ثم يوسِّع هذه الفكرة بالقول إن «المنفى ليس مسألة جغرافية، وإنما هو مسألة ثقافية».
لعل هذه الفكرة تصلح لمعاينة سيرة أدونيس وحياته كلها. فهو حين تخلّى عن اسمه الأصلي، نفى نفسه عن طيف من أطياف هويته. ثم عاش المنفى الذي يعيشه أي كاتب داخل لغته الأم. إذ بمجرد أن يزحزح الشاعر المعاني داخل المعاجم، يصبح غريباً داخل لغته وفي الوعي العام لجمهور هذه اللغة. فضلاً عن أنّ أدونيس عاش في بيروت وباريس أكثر مما عاش في بلده سوريا.
فكرة المنفى تتضاعف وتتعزّز أكثر حين ننظر إلى المآلات التي انتهت إليها طموحات الشاعر. ثمة نبرة يأس واضحة تتجول في أغلب صفحات الكتاب. ثمة نصوص عن لبنان كمجتمع مدني وفضاء اجتماعي وثقافي مختلف عن محيطه العربي الواسع. وهناك نصوص يتناول فيها الإسلام والأصولية الثقافية العربية، إضافة إلى ملحق كتب فيه عن «صداقات وتوضيحات ومناقشات».
التغيير الذي الذي حلم به صاحب «مفرد بصيغة الجمع» (1977) لم يحدث. الشاعر الذي اشتغل على جبهات ثقافية متعددة يملأه إحساس بالخيبة اليوم.
فهو يرى أنّ الكتابة العربية السائدة ليست سوى «كتابة مستنفدة سلفاً». ويخاطب نفسه بأسى: «لماذا يظل الزمن في الثقافة التي تنتمي إليها، جاثماً، جامداً، ويرفض النهوض». ويضيف في مكان آخر: «نظرياتنا كلها، وممارساتنا كلها، على امتداد القرن العشرين المنصرم، لم تؤسس إلا لشيء واحد: كتابة المستقبل بحبر الماضي». ويرى أنّ الموتى هم الذين يحكمون ثقافتنا: «ما أغرب حياتنا العربية، الموتى الذين يُبعثون فيها أكثر من الأطفال الذين يولدون». الشعر العربي الراهن لا يسلم من أوصافٍ كهذه. لنقرأ كيف يتساءل باستنكار: «كان بعض نقادنا القدامى يتحدثون عن «ماء» القصيدة/ إشارة إلى إعجابهم بها. أهناك ماءٌ في القصيدة اليوم؟».
ثم يحدد المقصود من تساؤله بدقة أكثر، فيصف شاعراً يكتب تحت لافتة «الشعر اليومي»: «ليس بين شعره والحياة اليومية أي اختلاف. لذلك لم يعد شعره ضرورياً ولم يعد مجدياً».
مرّ نصف قرن تقريباً، وأدونيس لا يزال يطرح الأسئلة ذاتها على واقعنا الثقافي والسياسي. لا هو تعب ولا يبدو ــــ في نظره ــــ أنّ الواقع تغير. حوّل أدونيس قراءته الخاصة للواقع إلى فنٍّ كامل. بات لدينا شعر أدونيسي وفكر أدونيسي ومقلِّدون أدونيسيون... بالمقابل، هناك معارضون كثر للطريقة التي يُمارس بها أدونيس هذا الفن. يتساءل هؤلاء: هل دخل هذا الفن الخاص في نمطيةٍ ما؟ هل باتت صورة الشاعر الفاقد الأمل بالواقع نوعاً من الدمغة المسبقة الملتصقة باسم أدونيس؟ هل لا تزال هذه الممارسة المستديمة تحتفظ بالجاذبية
ذاتها؟
لعلّ ممارسة هذا الرفض تحدث بشكل متبادل بين الشاعر وواقعه. يمكن الحديث عن «معاملة بالمثل» يتلقّاها أدونيس من الواقع العربي. وهذا ما يبرر العدد المتكاثر لكارهيه وحسّاده ومتتبّعي هفواته.
ثمة كتاب وشعراء كثيرون يرون أن أدونيس يعامل الواقع الثقافي العربي بنظرة عدمية. بعضهم يتهمه بمحاباة الغرب والركض خلف جائزة نوبل.
بل إن هؤلاء حوّلوا موعد الجائزة إلى مناسبة سنوية لشتم الشاعر.
على عتبة الثمانين، لا يزال صاحب «مقدمة للشعر العربي» (1971) يطرح الأسئلة بالمخيلة المتّقدة لذلك الشاب الذي شقّ لنفسه ولشعره مسالك وعرة. لعلّ أدونيس لا يجد اليوم مقلدين ومريدين كما في الماضي.
أغلب الشعراء الجدد ينزّهون نبراتهم وطموحاتهم في فضاءات أخرى. لم تعد تغويهم الأفكار والأحلام والاستعارات الكبرى. لكن على هؤلاء الاعتراف بأنهم مدينون له خصوصاً ــــ وللرواد عموماً ــــ بكون خياراتهم الشعرية حدثت بمشقة أقل وكلفة أدنى. المشكلة أن الطرفين يتشاركان في سوء فهم معقد.
أدونيس لا يرى جديداً لدى الجدد. والجدد يرونه قديماً.